عبد الجبار العتابي/
كأنها لم تكن سوى هذا الشارع الممتد من جسر الجمهورية حتى حدود فندق الرشيد ضمن المنطقة التي سميت عام 2003 بـ (الخضراء)، شارع تغيرت ملامحه الجميلة وقد ضم الى تلك المنطقة المسوّرة بحزام كونكريتي، فلم تبق لهذه المحلة التي يمتد تاريخها الى نحو 220 عاماً سوى ذكريات يحتفظ بها الناس.
يشعر المارّ في هذه المنطقة بوحشة حينما يتطلع الى ما حوله ولا يرى إلا فضاءات بلا حياة!
موسيقى وجمال
لاسم كرادة مريم وقع مميز في القلب قبل الأذن، تحسّه مثل موسيقى تنساب من بيت بغدادي قديم تزينه الشناشيل ويطل من شبابيكه الملونة وجه شابة جميلة، وتزقزق على شجرته العصافير، خاصة اذا ما أغمض المرء عينيه واستحضراستذكارات لتاريخ هذه المحلة الكبيرة الخلابة التي لها خصوصيتها في العلاقات الاجتماعية وكذلك التجارية بينها وبين المحلات الأخرى.
محلة التصق الجمال بها وكان عنواناً واضحاً لمساحاتها الخضر فضلاً عن كونها محطة استراحة لأهلها وأهل بغداد عموماً. وقد تميزت بمزارعها وبساتينها وحضور (الكرود) التي أخذت منها اسمها مقابل ما أخذته (الكرادة الشرقية)، فمن يجول في ذاكرة العديد من أماكنها التي تشرح الصدر يجد أنه يتنفس الصعداء لأنها ما كانت تعرف شيئاً اسمه (الممنوع).
ضريح مقدس
وقد كانت فسيحة وبيوت أهاليها قائمة على ضفاف نهر دجلة وناسها يمتهنون المحبة قبل امتهانهم الزراعة وصيد السمك وعملهم على الزوارق بين ضفاف دجلة، ولن يجد الجائل في الكرادة حوانيت ولا عطارين بل كان أهلها يذهبون إلى أسواق الشوّاكة وعلاوي الحلة لشراء ما يحتاجونه وقد منّ عليهم الله بالكثير من أطايب الأرض، كما أنه سيعرف أن هناك مهناً لم يكن في كرادة مريم من يمتهنها كالخياطة الرجالية والحلاقة، فكان الرجال يذهبون إلى بغداد لخياطة ملابسهم، أما الحلاق فكان يأتيهم من بغداد، فيما كان أهل بغداد يمارسون (الكسلة) التي يمارسها أهل كرادة مريم في هذه الأمكنة الفسيحة الخضراء وكان أهل كرادة مريم يقدسون ضريح امرأة مدفونة هناك اسمها (مريم) ومنه اتخذوا مساحة من الأرض تابعة للضريح مقبرة لأولادهم الذين يتوفاهم الله، فيما تسحر لهجتهم المستمع لأحاديثهم حيث يتكلم أهل كرادة مريم بلهجة خاصة تختلف في بعض الوجوه عن لهجة أهل بغداد. ومن خصائصها أنها بسيطة وخالية من التفخيم الذي يميز اللهجة البغدادية، ويمتاز كلام الكرّادي بطغيان حركة الكسر على مفرداته بدل الضم الذي يكثر في كلام البغادّة، وهناك مفردات شائعة في قاموس اللهجة الكرّادية لا يستعملها أهل بغداد.
ولا بد من الإشارة الى أن أهل الكرادة لا يشترون التمر والدبس والتكي والمخضرات والفجل والنبق،لأنها كانت تزرع وتصنع في بيوتهم، فيما يتم التأكيد على أن من الأعمال الرئيسة لأهل كرادة مريم بيع الفجل، وكانوا يسمونه (أبو خوصة الذهب) دلالة على الربح الوفير الذي يتحصل من بيعه، والخوصة مفردة الخوص وتتخذ عادة لشد باقة الفجل، وكانوا يبيعونه على أهل بغداد في الكرخ والرصافة.
محال للبيع
لايمكن النظر الى كرادة مريم إلا من أعلى نقطة في جسر الجمهورية، حيث يبدو الشارع كئيباً وإن كان فيه بعض الاخضرار، ثمة بنايات متهالكة على الجانب الأيمن ومحال تجارية ومطاعم لا تجتذب المارّ إليها، ولكن في الخطوات على الشارع منذ أول الجسر، لا بد من الالتفات الى بناية وزارة التخطيط التي توصف بـ (الحمراء) التي عهد مجلس الإعمار عام 1956 بتصميمها إلى المعمار الإيطالي (جو بونتي)، كنت أحدق فيها بإمعان باحثاً عن آثار الرصاص الذي تعرضت له، فقد تم إصلاحها وترميمها وبدت أفضل بكثير، فيما يتوزع قربها الكثير من الجنود ولا أستغرب إذ أن المكان فيه شارع يؤدي الى القصر الجمهوري، لكن نظراتي توقفت عند بناية أعرفها جيداً وهي بناية مستشفى (الطفل العربي) الذي أنشئ نحو عام 1956م وكان يهتم بالأطفال خاصة، وقد تم (تهجيره) وتحولت البناية الى سكن لأفراد حمايات القصر منذ الثمانينات، كان المنظر قبيحاً وبائساً، وفي التفاتة الى الجانب الأيمن لايدهشك المنظر كثيراً، لا المحال التجارية ولا الأرصفة السيئة الخالية من المارة، بل أن الدهشة تأتي من استذكار الفنان الراحل عز الدين طابو الذي كان يسكن شقة هناك وكان يجلس تحتها ويفيض بروحه المرحة على المكان، وكان المارّون به يبادلونه المحبة، ومن مكان طابو تمتد بعض شوارع فرعية صغيرة تابعة للصالحية وهي حسب الترقيم الجديد لأمانة بغداد :(الصالحية محلة 222)، لكن الغريب أن العديد من المحال التجارية أغلقت أبوابها وكتب عليها (المحل للبيع) وقد بانت الكآبة على واجهاتها.
الأصل والمعنى
أصل تسمية الكرادة مشتق من كلمة (الكرد) فالكرادة هم أصحاب (الكرود) التي تسقي الأراضي والبساتين. وينصب (الكرد) عادة على بئر مجاورة للنهر، وجاء في مجلة (العراق الجديد) أن اسم الكرادة الحالي حديث وحصل في فترة متأخرة من حكم العثمانيين، فيما يؤكد الدكتور عماد عبد السلام رؤوف (وترددت الإشارة الى كرادة مريم في الوقفيات منذ سنة 1209 هـ / 1794 م)، كما يوضح: (وتسمى المنطقة الشاطئية في شرق كرادة مريم بالكاورية ،وهي لفظة محرفة من العربية (كافر= كاور) وعرفت بوجود دير هناك في بعض العهود.)
حكاية مريم
تنسب كرادة مريم الى مرقد يقع قرب مستشفى ابن سينا (أنشئ عام 1964) أمام القصر الجمهوري، يعود تاريخه الى مئات السنين، اختلفت فيه الآراء، فهناك من يرى أنه نسب الى العذراء مريم أم السيد المسيح (عليهما السلام)، بالرغم من تأكيد الكثيرين عدم صحة هذا النسب، فيما يرى الدكتور عماد عبد السلام رؤوف: ومريم التي أضيفت إليها هي إحدى النساء الصالحات من العصر العثماني، دفنت هناك(في أرض السفارة الكويتية القديمة بقرب القصر الجمهوري)، فيما يرى بعضهم أنه ضريح السيدة مريم بنت الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي السجاد (زين العابدين) صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وليس هناك أي دليل على ذلك، وأهل الكرادة يقدسون الضريح لذلك اتخذوا من الأرض المحيطة به مقبرة لأطفالهم، وأما أهل بغداد فكان هذا المشهد متنزهاً لهم يجتمعون حوله في كل عام مرتين، ويعرف بالكسلة، الكسلة الأولى في الجمعة الأولى بعد عيد الفطر، والكسلة الثانية في الجمعة الأولى بعد عيد الأضحى، وقد توقفت الزيارة لهذا المرقد حين أصبحت الأرض المحيطة به تابعة للسلطة، ثم تطورت بعد 2003 الى المنطقة الخضراء.
استملكها البعثيون
تغير المكان تغيراً جذرياً مع حكم البعثيين الذين استولوا على المحلة فمحوا تضاريسها وخربوا ابتهاجاتها. يقول عبد الجبار منديل:عبد الكريم قاسم لم يسكن المنطقة الخضراء بل ولم يسكن القصر الجمهوري فلم يكن قد استكمل بناؤه بعد، فقد كان يسكن في بيت صغير ملك للأوقاف في الكرادة بجوار بيت أخته، وسكنه عبد السلام عارف بعد استكمال بنائه في 1964، والقصر الجمهوري كما هو معروف يقع في كرادة مريم، وفي النصف الأول من السبعينات كان بناءً رسمياً عادياً مثل أية دائرة رسمية وتحيط به بيوت المواطنين من كل جانب، وتمر في الشارع من أمامه السيارات وعربات النقل وحافلات نقل الركاب. وكنا نسكن الحارثية أو اليرموك، نخترق المنطقة عن طريق الحافلات رقم 21 و42 يومياً في طريقنا الى دوائرنا ذاهبين أو عائدين.
ويضيف:عندما تسلم البعثيون الحكم عام 1968 بدأ الزحف التدريجي داخل المنطقة باستملاك البيوت تدريجياً، في البداية منعوا المرور من أمام القصر للسيارات والأفراد، بعد ذلك استملكوا قاعة الخلد وما حولها من منشآت سياحية وبيوت ثم وضعوا مشبكاً حديدياً صغيراً أمام القصر في وسط الشارع القادم من جسر الجمهورية وبالعمق الى الشمال على شكل نصف قوس ينتهي عند نهر دجلة قبل بداية الجسر المعلق، ثم أسسوا بوابات كبيرة مثل بوابات القلاع التاريخية، ثم منعوا المرور في شارع كرادة مريم إطلاقاً ابتداءً من مستشفى الطفل العربي مقابل جسر الجمهورية وأخذوا يستملكون البيوت تدريجياً، ثم استملكوا منطقة ( أم العظام ) المجاورة للشارع القادم من الجسر المعلق وشيدوا فيها عمارات للمخابرات والحرس الجمهوري وغيرهم من الربع والمحاسيب والخدم والحشم.
مشهد حي
في سنة 1990 تحولت كرادة مريم الى مسطر كبير للعمال من أجل العمل في القصر الجمهوري، لاسيما في الباب الذي يقع وسط الشارع (كان تقاطعاً) ، فيما تحول المكان الى ساحة كبيرة لباعة الأطعمة والشاي، كان الدخول صعباً جداً ويجري تفتيش شامل لكل ما يرتديه الشخص وما يحمله، والظريف أن الحراس كانوا يفتشون حتى “الفيتة” التي هي وحدة قياس مترية صغيرة، كما كانوا يفتحون فاكهة (الرقي) خشية أن يخفي العامل فيها شيئاً غير مرغوب فيه، أما في داخل المكان من القصر فكل المشرفين والمتابعين للعمل هم (تكارتة) وهؤلاء كانوا يقضون خدمتهم العسكرية الإلزامية في العمل هنا.