خضير الزيدي/
لا تُذكرُ، كربلاءُ المقدسةُ، إلا وتُذكرُ فيها المراقدُ، والقبابُ الشامخاتُ. وحيثما تسمع باسمِها، يأخذك الشوقُ والحنينُ، لرؤيةِ ضريحين مقدسين، شيدا قبل عشرات السنين، لأئمةٍ عاهدوا اللهَ على حمل لواء الإيمانِ والرسالةِ المحمدية، وما بدلوا تبديلا. عرفت الأمم والشعوب حكاية صبرهم وروح ثورتهم، وكيف ساروا قاطعين الصحراءَ واللهيبَ، والدماءَ، ليعلنوا للإنسانية، بأن ثمار الحرية، لن تُؤكلَ إلا بعد أن تقطف من أيدٍ نظيفة، ولكن كلّما رفعت تلك اليد لتحمل راية السلام وصلتها سهام الغدر، فأصابت من أراد للإنسان أن يتحرر،ويكسر بإرادته قيود العبودية. ولكن الذي شاء حدث، فأعدت كربلاء مكاناً لفيض المسلمين تنيرها قبتان شامختان سجلهما التأريخ الإنساني وذكرهما المؤرخون لتكونا شاهداً على الشهداء من أهل بيت النبوة. فما أن نتوقف عند مشهد ضريح الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ونحن نمسك بشبّاكه المطهر حتى تأخذنا التصاميم الجميلة والنقوش فيه وطريقة التراكيب البنائية، بعد أن تهيمن علينا فيوضات الروحانيات من مشهد القبة وضوئها النوراني وسحر تكوينها.
مصادر تأريخ الضريح
هناك العديد من الكتب التي أشارت في محتواها لتأريخ نشأة الضريح والشباك وما طرأ عليهما من متغيرات بنائية وتراكيب وتبديل في المواد يذكر لنا السيد عبد الجواد علي الكلدار في كتاب (تأريخ كربلاء وحائر الحسين) بأن من شيد ضريح الإمام الحسين عليه السلام بالعاج والحلل والديباج ووضع عليه الزينة هو “عضد الدولة البويهي” في سنة 369 للهجرة النبوية، أما مؤلف كتاب (تأريخ مرقد الحسين عليه السلام) وهو الأستاذ سلمان الطعمة فيؤكد أن تأريخ التشييد كان في التاسع والعشرين من شهر آب لعام 977 ميلادي، وأيضا يذكر أنه تم تشيده من قبل “عضد الدولة البويهي” معتمداً الخشب الصاج في تلك المرحلة، ولكنْ بعد سنوات من هذا التأريخ حدث الأمر المؤسف، فقد تعرض ذلك المشهد النوراني المقدس لحريق بعد أن تهاوت شمعتان على مفروشات الضريح المقدس وأضرمت النار. ولا تخفي مصادر التأريخ أن تلك الواقعة حدثت في العاشر من حزيران لعام 1016 وهنا نقرأ إشارة مهمة للسيد جعفر الخليلي في موسوعة العتبات المقدسة بأن من أعاد ترميم ما حدث، الوزير “الحسن بن الفضل” وما زال بعض الكتاب والمحققين يشكّون في أسباب الحريق، هكذا تشير الحوادث لبناء الضريح والقبة والمرقد الشريف، ولكن الذي طرأ بشكل أوسع ما قام به “الشاه إسماعيل” سنة 914 للهجرة حينما أمر بتذهيب أطراف الضريح الطاهر ليكون أكثر بهاء ونضرة لمن يراه لأول مرة. ويقال أنه قدم اثني عشر قنديلاً مذهباً وقناديل أخرى من الفضة لتكون في موضع الضريح المقدس. وفيما يخص الشبّاك النحاسي فتوضح لنا مصادر التأريخ بان الشاه “عباس الصفوي” هو من وضعه سنه 1032 للهجرة.
دلائل أخرى
هكذا هو مشهد أبي عبد الله الحسين عليه السلام متجدد البناء والحيوية تحيطه النقوش الإسلامية والزخارف الجميلة من كل صوب وحدب. وكل ذلك إنما بُني وصُمم بفنّ هندسي وطريقة ذكية أصبحت من الفنون الإنسانية التي تتناول بأشكالها الزخرفية واجهات براقة لأبواب متعددة تفضي للضريح أو سقوف تعلو الضريح ليعلن هذا المكان عن صاحبه إجلالاً وإكراماً لمثواه.
وتفرض مساحة المكان التي بلغت 7125 متراً مربعاً مجالاً واسعاً للزائرين القادمين من شتى البلدان، فقسم من تلك المساحة الكبيرة خصص للصحن الحسيني الشريف فقد بلغ طوله 95 متراً وعرضه 75 متراً تتوسطها باب القبلة الكبيرة التي يدخلها الزائرون، ولا يكتفي القائمون على تشييد ذلك الضريح الطاهر في وجود هذه الباب فقط، بل يأخذنا الرواق الواسع لسبع أبواب تؤدي إلى الصحن وثماني أبواب أخرى تقودنا للضريح وجميعها مطعم بالنقوش والأحجار النادرة الكريمة مع وجود نقوش نباتية وآيات قرآنية كتبت بخطوط واضحة. وما أن يلج الزائر ليتوقف حيث الشباك والضريح حتى تتناهى له القبة الجميلة التي ارتفعت بحدود 27 متراً تحيطها الشبابيك الصغيرة التي بلغت 12 شباكاً وقربها تتدلى الثريات التي صممت من الكرستال مع سقوف مزينة بمرايا صغيرة تعطي رونقاً وبهاء لجمال المكان روحياً. أما المئذنتان فهما شاهد آخر من شواهد الفن الإسلامي الجميل بلغ ارتفاع كل واحدة منهما 44 متراً، مطليتان بالذهب الخالص لتكونا من علامات أرض كربلاء المقدسة التي كانت سابقاً تسمى بالغاضرية والنواويس وأرض الطفّ.
الروضة العباسية المطهرة
ليس ببعيد عن مشهد ضريح الإمام الحسين عليه السلام، ثمة قبة طاهرة أخرى وضريح شامخ، فإلى الشمال منه وعلى بعد 240 متراً يدخل الزائر إلى مشهد العباس بن علي عليهما السلام الذي عرف ببسالته وشجاعته مدافعاً عن لواء الإيمان ورسالة الحق. تلك القبة والضريح والمشهد ينبئنا بمكانة صاحبه منذ أن خرج مع أخيه الأمام الحسين حتى لحظة استشهاده ليتولى المؤمنون تشييد ضريحه وتعمير روضته الطاهرة. وكلما تغيرت دواخل ضريح الإمام الحسين تتغير دواخل ضريح العباس، فقد زينت قبته بالكاشاني الملون وبني شباك على صندوق ضريحه المقدس وأهدي للحرم الشريف الكثير من التحف والنوادر مثلما فعلها “نادر شاه” عام 1742، وأيضاً ما صنعه السلطان “محمد شاه بن عباس ميرزا” في تغيير الشباك عام 1820، فقد بلغت مساحة تلك الروضة العطرة 4370 متراً ولها أكثر من باب تحيطها من الداخل غرف أصبحت مراقد لعلماء الشيعة وشخصيات إسلامية.