جمال جمعة /
حين عدت من مغتربي بعد عقود ثلاثة قضيتها في الغرب كان أول ما صدمني سلوك سائق تاكسي كنت في سيارته وأنا في طريقي إلى دائرة البطاقة الموحدة لاستعادة جنسيتي العراقية. وقبل أن نصل إلى مقصدنا مررنا بمدرسة للبنات تقف أمام بابها ثلاث طالبات يتحادثن مع بعضهن قبل الافتراق. كانت إحداهن ترتدي تنورة ليست بالقصيرة والثانية بنطالاً أنيقاً من الجينز وما أن حاذتهن السيارة التي تقلني حتى مدّ سائق التاكسي برأسه من النافذة وأطلق نحوهن شتيمة وقحة، شتيمة كنت لا أسمعها تتردد إلا همساً وعلى استحياء.
حقيقة شدهتُ في بادئ الأمر واستغرق الأمر بضع دقائق بدت وكأنها دهور للسيطرة على غضبي ثم سألته إن كان يعرفهن؟ فأجابني بالنفي، فقلت له: كيف إذن توجه لهن مثل هذه الكلمة الوقحة؟ فقال لي بصلافة: ألا ترى كيف كانت ملابسهن؟! فقلت له: ماذا سيكون موقفك لو كانت إحداهن أختاً لي أو إحدى قريباتي؟ فجفل السائق وتبدل لونه من الأصفر إلى الأخضر وبقي ساكناً فترة طويلة قبل أن يحاول تبرير فعلته بصوت مضطرب.
الشعب العراقي بحاجة إلى تربية أخلاقية جذرية، ابتداءً من طريقته في قيادة السيارات إلى أسلوب تعامله اليومي مع المرأة. إعادة تربية ليست على طريقة المواعظ بل وفق نظام (التحفيز الاجتماعي) على غرار ما فعلته سنغافورة في «تغيير سلوك الشعب» بعد أن وجدت نفسها في خضم مشكلات اقتصادية واجتماعية عميقة إثر إعلان استقلالها عام 1965. فقد كانت سنغافورة بلا موارد طبيعية وذات تعليم متدن وشعبها يقبع في مساكن لا تليق بالبشر. وتحقيقاً لهذه الغاية، شكلت الحكومة فريقاً مسؤولاً عن “الرؤى السلوكية” للمواطنين، أطلق على أفراده اسم “وحدة التحفيز”، كانت معنية بتطبيق “نظرية التحفيز” على السياسات الحكومية، وهي النظرية التي فاز عنها ريتشارد ثالر بجائزة نوبل، وتقوم على فكرة مؤداها أن الناس يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات أفضل من خلال سياسات بسيطة وغير ملحوظة، دون مصادرة حريتهم في الاختيار. وبعد خمسين عاماً أضحت سنغافورة مضرب المثل في النظام والكفاءة وغدت واحدة من المراكز المالية في العالم.
العراق بحاجة اليوم لتوجيه سلوكي ليمكننا التخلص من الفساد والمحسوبية والاستزلام، بل وحتى عبور الشارع دون خوف، عراق يمكن فيه لأخواتنا وبناتنا السير في شوارعه دون أن ينتهكهن أحد في الطريق.