فكرة الطائي /
حسمت غالبية الدول قرار العودة إلى الحياة الطبيعية بعد عزلة مجتمعية، فرضت قسراً، جراء جائحة كورونا التي اجتاحت العالم من دون سابق إنذار وخربت اقتصاديات بلدان عرفت بهيمنتها على اقتصاد العالم.
يتوق الناس إلى كسر العزلة التي أبعدتهم عن وسطهم الاجتماعي، لذلك يسعون إلى تهيئة مناخات هذه العودة لممارسة نشاطاتهم الإنسانية العامة والخاصة، والتكيف مع الوضع الجديد الذي فرضته الجائحة، لكن السؤال الذي يشغل بال العائلات العراقية خاصة هو كيفية تأهيل الأولاد وإعادة اندماجهم مع مجتمعاتهم الصغيرة في المدرسة والمحلة والبيت والشارع بعد انقطاع إجباري لمدة أكثر من عامين.
في فترة الانقطاع تلك لم يكن الأطفال والأولاد بعيدين عن العالم، وإنما في قلب أحداث العالم من خلال الفضاء الافتراضي الأزرق، وبعيداً عن العالم الواقعي حتى داخل البيت مع الأهل، إذ أن كل فرد منهم منشغل ومندمج ومهووس بعالمه الافتراضي الخاص به. لذلك سوف يجد الأولاد صعوبة في العودة إلى الواقع الحقيقي، وتلك قضية شغلت بال ذوي الأطفال وعوائلهم، ولهذا يجتهد العديد منهم إلى التخفيف من الآثار الناتجة عن العزلة ومواجهة المجتمع من جديد بشكل تدريجي، وثمة معالجات لابد منها لاندماج أولادنا في المجتمع العام.
الخوف من الاندماج
لم يكن نهاد حسين – 40 سنة – يتخيل أن يصل الأمر بولده في يوم من الأيام إلى الخوف من مواجهة المجتمع ولقاء حتى أقاربه، بعد أن عزل نفسه في غرفة صغيرة مستخدماً الموبايل للتواصل مع العالم الخارجي.
يقول حسين: “كم من مرة حاولت اصطحابه معي خارج البيت لكسر حاجز الخوف، لكنه كان يفلت يده مني ليعود مسرعاً إلى البيت، أدركت أن هذه العزلة ولّدت لديه مخاوف نفسية لابد من معالجتها.”
هذه الحالة قد تعيشها عائلات أخرى مع أولادها جراء العزلة الطويلة، في حين أن هناك مناطق أخرى لم تعش العزلة على مستوى المجتمعات المحلية الصغيرة وبقيت تمارس حياتها على الرغم من ارتفاع نسب الإصابات بينهم .
عالمٌ جديد
تقول انتصار عباس – 65سنة – وهي جدة لأحفاد وحفيدات: “بحكم وجودي الدائم في البيت، وانشغال الآباء والأمهات بأعمالهم خارج المنزل، لاحظت انشغال الأولاد اليومي بأجهزتهم الحديثة -صغاراً وكباراً- وكل واحد منهم منشغل بعالمه، وهم حتى وإن جلسوا في مكان واحد، فإنهم يجلسون وكأنهم أغراب بعضهم عن بعض، فقد أصبح هذا العالم هو عالمهم الواقعي، وحين أخبر أولادي وبناتي بهذه الحالة يقولون لي: لا تستغربي ذلك فهم لا يملكون وسيلة ترفيه أو تواصل مع الاخرين. أولادي يرون ذلك لكني أرى أنه هروب من الواقع وعدم اندماج مع المحيط الذي يعيشون فيه”.
ذات الأمر أكده صلاح كاظم – 40 سنة – موظف، إذ قال “من جراء الحجر الصحي الذي فرض أثناء الجائحة، لاحظت أن أطفالي عزلوا أنفسهم وباتت لديهم رغبة البقاء في غرفهم لساعات طوال، حتى أنهم لا يغادرونها إلا لقضاء حاجات ضرورية من دون الاهتمام لما يحدث من حولهم “.
ابتعدنا فابتعد أولادنا :
وجدت في إشارة خالد جمال – أب لبنت وولد – موظف، شيئاً من الواقعية وهو يتحدث كيف كان يصطحب الأولاد في زياراته العائلية للأقارب والأصدقاء، مبيناً “أن الجائحة فرضت علينا ابتعاد بعضنا عن بعض، ما أثر -بطبيعة الحال- على أولادنا ودفعهم إلى العزلة التي خلقت لهم متاعب نفسية وجسدية، حتى أنهم لم يعودوا يرحبون بفكرة الخروج من البيت، ويتذرعون بحجج واهية للبقاء فيه “.
إجراءات..
في قسم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة بغداد- التقيت الدكتورة هديل عبد الجبار التي حدثتنا عن هذه الظاهرة وعن مقترحاتها لخروج أطفالنا من العزلة.
تقول عبد الجبار: “أدت العزلة الاجتماعية للأولاد في التأثير على المدارك الذهنية والعاطفية لهم، ولاسيما بعد أن أغلقت المدارس أبوابها وأصبحت الدراسة عن بعد، وكان لذلك الأثر الأكبر على الأطفال بعد أن كانوا يمارسون الأنشطة المختلفة في المدراس مع أقرانهم من خلال التعلم وتفريغ طاقاتهم في ممارسة الألعاب المختلفة، وقد تتجاوز الآثار المترتبة على ذلك الملل وفقدان التواصل الاجتماعي إلى آثار سلبية وخيمة على قدراتهم الإدراكية والمعرفية وعلى مشاعرهم أيضاً، لكن الأمر الأكثر خطورة هو خلق فجوة أكبر عمقاً وخطورة على الأطفال الذين لايزالون في طور تعلم القراءة والكتابة “.
* ولكن كيف يمكن للأُسر أن تتفادى هذه الاثار السلبية؟
تعتقد الدكتورة عبد الجبار “أن ممارسة الأطفال الجلوس فترات طويلة في البيت تتطلب منا التفكير بوسائل وإجراءات مختلفة لإعادة اندماجهم وتكيفهم مع المجتمع بعد أن اتخذت قرارات من قبل المسؤولين بالعودة إلى مقاعد الدراسة بشكل طبيعي، إذ لابد للأسرة من أدراك دورها في أهمية تكيف الأولاد للاندماج المجتمعي بعد فترة عزلة طويلة، كذلك لابد للمعلم من أن يتفهم شعور الأولاد والتعامل معهم بحكمة وهدوء لإذابة وإزالة القلق الذي يشعرون به من جراء العودة إلى مقاعد الدراسة واندماجهم فيما بينهم في المدرسة والمحلة والبيت.”