الاكتئـــــــاب الثلجي وفاتورة “العُزلة” العائلية..

آمنة عبد النبي – هولندا/
تخيّل أن (متلازمة) الاضطراب العاطفي، أو ما يعرف بالاكتئاب الثلجي الذي ينتشر بعد ليالٍ قاسية، تبتلع سحبها الغاضبة خيوط الشمس الدافئة في قارة أوربا، بجزئها الغربي على الأغلب،
فما إن يهبط فصل الشتاء هنا بثلوجه في هولندا حتى يحل الصمت المخلوط بالظلام وبياض الثلج، فيسود الفراغ الشوارع ويطفئ حركة الناس في الطرقات، لتصبح تلك “العُزلة” العائلية وتخيلاتها المعتمة، ولاسيما في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وكلفة الغلاء الشتوية، هي سيدة الحياة اليومية في الشتاء.
بياض مكلف
الكُل يجمع على أن النصيب الدسم من الكآبة والعزلة القاتمة هو من حصة المغتربين العراقيين، باعتبار أن الحنين الدافئ هو خيط رفيع ما بين بغداد وهولندا، كما عبّرت عنه الكوافيرة المقيمة في امستردام (زينب سلام) قائلة:
“لم يعد الشتاء كئيباً بتأثيراته النفسية والهرمونية التي تصيب العراقيين وتعزلهم بشكل مركّز أكثر من غيرهم من الجاليات فحسب، وإنما صار عبئاً اقتصادياً، لأنه يجلب سلسلة طويلة من المعاناة مع البرد، ولاسيما في قضية التدفئة بالغاز، إذ إن فاتورتها غالية جداً، والمصيبة أنها لا غنى عنها سوى بترك الأطفال فريسة لأمراض البرد. شخصياً، لم أعد أستطع تحمل الشتاء، ولا أرغب بمواجهة كآبته، فلم نعد نحتمل أسعار فواتير الغاز، الذي لا يمكنني الاستغناء عنه بحكم أن لدي طفل، وشتاء أوربا ممرض كما تعلمين، لذلك اضطررت للاستعانة بمدفأة نفطية عراقية أرسلها لي أهلي من العراق كبديل، مع أن وقود البدائل المتاحة مكلف أيضاً وغير آمن في بيت جدرانه من خشب”.
بالمناسبة، ومن ناحية علمية فإن الإنسان يحتاج نور الشمس في كل تفاصيل جسده، لكيلا يذوي أو يتكاسل أو يصاب بالخمول، لكن الناس في هولندا وأوربا عموماً مجبرون على الحياة بلا شمس، على مضض، ما يعني أنهم لو أتيحت لهم فرصة الانتقال الى بلاد مشمسة مع الإبقاء على امتيازاتهم، لذهبوا.
غربة يفززها الثلج
أما مدربة السياقة المُقيمة في مدينة روتردام الهولندية (جنان هاشم) فقد عبّرت عن رأيها في الاكتئاب الشتوي منزعجة:
“مع أن الحياة بلا شمس ليست مستحيلة، باعتبار أننا نحن من نصنع شروق أرواحنا وغروبها، لكن الأمر لديّ مرتبط بحنيني المرعب للعراق الذي تفصلني عنه وحشة المسافات، فثمة غُربة يفزّزها الثلج، لذلك فإن منظر الثلج المتراكم على النوافذ والأشجار. ولاسيما في ساعات الغروب يخنق أنفاسي ويهيج عندي الحنين لبلادي، ذلك المأزق النفسي وكآبته عشت معه كثيراً ومراراً، إضافة الى تأثيراته الأخرى، ومنها بالأخص وجوب الخروج الباكر الى العمل، الذي قد يتطلب ساعة إضافية، فضلاً عن تنظيف السيارة من تراكم الثلج والسياقة المتأنية، لا أنكر أنني في البداية كان الثلج يبهجني، لكن مع الوقت ما عاد كذلك.”
القلب لا ينام في البرد
في حين تتناول الشاعرة المغتربة (هند أنس) مشهد هطول الثلج ونقيضه قائلة بشاعرية:
“ذكرت مرّة في إحدى محادثاتي، أنّ للشمس بعد ليلة تعيسة تأثيراً قويماً على تسكينِ الجروح، ولربما شفاء بعضها على المدى الطويل، إذ إن الصراعَ مع الأرق يولّد جسداً مهزوماً عند الفجر، وينتهي المطاف أخيراً بالنوم، وفي ساعات الصباح الأولى، عندما تجتاح أشعة الشمس العين، تجبرها على الاستيقاظ من غيبوبةٍ، وكأنّ صاحبها كان ثملاً، ونسي ما حدث معه في الأمس، بينما عندما يتكرر الأمر ذاته، بوجود عاصفة، ورياح قاسية، ورائحة البلل تملأ الطرق، لن نستطيع هنا تهميش الليلة السابقة، فالجروح لا تشفى بالرطوبة، والقلب لا ينام في البرد.”