السمّ الأبيض والنفوس الضعيفة

رجاء خضير/

حينما تتكسر خيوط الرحمة التي تربط افراد الدم الواحد وتتلاشى المحبة بينهم, تلفهم خيوط العنكبوت وتأخذ الجميع في دوامة لا قرار لها.عندها تتشظى المبادئ وتضيع القيم, صمام الأمان في حياتنا لنعيش في غابة كبيرة تسيطر عليها الوحوش الإنسانية الشرسة.

وحكايتنا هي ….

تربّى وسط عائلة محدودة الدخل, والداه يعملان من اجل توفير لقمة العيش له ولإخوته, بالكاد كانا يجمعان مصاريف دراستهم, إلا أن القناعة النابعة من ايمان والديه لم يكن مقتنعا بها, كان كثير التطلع الى غيره من ابناء الميسورين, كان يصر على مرافقتهم بالرغم من الفروقات الواضحة على ملابسه وأكله وكل شيء. وكم نبهته أمه على هذا السلوك الخاطئ, والتشبه بطبقة عالية المستوى : كانت تستقرئ مستقبله فتخشى عليه من الضياع وسط عاصفة آتية لا محال ولكن كلماتها معه كانت تذهب ادراج الريح … بدأ يكبر وتكبر معه طموحاته ورغباته في امتلاك كذا وكذا أنا مثل فلان وفلان، وهي صامتة امام ضياع ولدها الذي بدأ يأخذ منحى آخر … ما اضطرها ان تصارح والده بكل شيء, وبدوره أكد لها بأنه يعرف عنه أدق التفاصيل, ولأول مرة عرفت أنه(والده) قد حدثه مرارا وطلب منه ان يترك هؤلاء الأصدقاء مرة باللين ومرة بالضرب… كان هذا يحدث خارج البيت خشية على من فيه…. ولكن هل يستجيب الكلب المسعور لمروضه؟

نضج واصبح شابا وتغيرت طباعه مع اخوته ووالديه صار اكثر عدوانية, كان يثير المشاكل خارج البيت وداخله وفي المدرسة, ما اضطر ادارة المدرسة الى فصله هو وعدد من اصدقائه وهكذا صار الشارع والمقاهي ملاذه الوحيد, لم تنفع نصح والديه به, بل صارحهما بأنه قد وجد عملا يتطلب منه المبيت خارجا لمدة لا يعرفها… وهنا بدأت خطوات الانحلال والسقوط نحو الهاوية الحقيقية .. توفى والده بعد مرض لم يمهله طويلا, وبسببه كما عبرت الأم بذلك…

اذن الفرصة مواتية ليعمل اي شيء بلا رقيب, حيث انشلغت الأم ببقية ابنائها وتوفير العيش لهم اما هو فقد تعرف على شباب مثله وفروا له العمل المريح والذي يدرعليه المال الذي يحلم به… عمل كالمجنون من اجل الحصول على المزيد… وتحقق له ما كان يحلم به… مال ونساء وخمر… ماذا يريد اكثر؟ وفي يوم أوصل بضاعة الى صاحبها ليكرمه مبلغا لم يحلم به, بل واقترح عليه ان يعمل معه ويترك مجموعته الأولى, وهكذا فعل … في زمن قصير اصبح من الاغنياء… كيف؟ وما هو عمله؟

الجواب لا يحتاج الى تفكير ….

استذكر والدته وإخوته زارهم مساء, في بداية الأمر لم يعرفوه لما بدا عليه من آثار النعمة والغنى. ولكن بإحساس الأم الذي لا يخطئ ابدا شمت رائحة نتنه وقذرة تفوح منه, عرف ما احسته فقال: امي عطري هذا قد اشتريته بكذا… لم تدعه يكمل بل رمت هداياه وسحبته خارج البيت واغلقت الباب… واحست بأن ابنها قد مات في هذه اللحظة .. لم ييأس من لقاء اخوته أمام مدارسهم, وحاول التأثير عليهم بأخذ النقود, لكنهم رفضوا لعهد قطعوه لأمهم … أعاد الكرّة اكثر من مرة, والجواب نفسه من قبلهم وحينما يئس لم يعد اليهم بعد ذلك

انقطعت اخباره عنهم, لاسيما والدته التي كانت تدعو له سراً بالإصلاح والتوبة….

مرت السنون سريعة وتخرج بقية اولادها من الجامعات وبمساعدة اهل الخير وجدوا اعمالا في شتى الميادين عندها طلبوا من والدتهم الكف عن العمل فهي تعمل منذ سنين حيث رسمت خطوط التعب والوهن على وجهها، استجابت لرغبتهم ولازمت البيت بقية عمرها…بين آونة واخرى تسأل عنه إخوته الذين لم يعرفوا اي شيء عنه …

اما هو فقد اصبح من كبار تجار ( ! ) الممنوعة والمحرمة في ديننا ومجتمعنا الإسلامي … وكلما زاد ثراء زاد طمعا ونهشا بنفوس الشباب المنحل …
تزوج من امرأة ساعدته في تجارته هذه, وأخذ يعرفها على مجتمعه الفاسد, وما هي الا فترة قصيرة وبدأت العمل لصالحها وبمفردها, بعد أن تعلمت اصول الصنعة… من هنا بدأت جولة الخلافات بينهما, يوميا صراخ وضرب وشتائم الى ان طلبت منه الطلاق وبمساعدة احد اصدقائه المقربين حصلت عليه, تزوجها هذا الصديق عرفيا وسرا, ساءت احوال بطل حكايتنا الصحية , وبدأت قواه تنهار تحت تأثير ما يتعاطاه من مخدرات , فهو ليس يعمل بتجارتها فقط وأنما تعود عليها منذ ترك منزل اهله, وعندما علمت امه آنذاك بحقيقته السوداء وصارحته بها, حينها اجابها بعقوق وانكار لأمومتها ( أنا مستعد لبيعك واشتري ( ! ) لو كان هناك من يشتريك ) تذكر هذا الموقف وفاض حنينه لأمه, وذهب الى بيت اهله وكله أمل ان يرى والدته ويطلب السماح والغفران منها على ذنوبه …

وصل وكانت الصدمة امامه, حينما قرأ نعيها على يا فطة سوداء تزين جدار البيت :

جلس على الأرض يبكي ويترحم على أم نذرت نفسها لأولادها وتوصيلهم الى بر الأمان, فشلت معه ونجحت مع الآخرين …

عاد من حيث أتى والحزن والخوف من مجهول لايعرف كنهه…

انتفض من افكاره هذه وقرر زيادة نشاطه بتوزيع السموم اكثر من قبل, ليجمع المال ويتعالج قبل ان يموت… عمل ليل نهار… سافر الى بلدان عدة يعمل المنكر ويشيع الفساد, عاد الى وطنه بحلة جديدة هو الرأس وهناك من يعمل تحت يديه, تنافس مع الكثيرين الذي خلق منهم اعداء وخسر الكثير من اصدقاء السوء… في احدى الليالي الحالكة الظلام سمع طرقا عنيفا على باب قصره الواسع , وكم تمنى أن يكون الطارق واحدا من أهله ليبرد ظلام وحدته، رغم أنه يعرف جيدا أنهم لايأتون اليه مهما ضاقت بهم السبل .

فتح الباب ليجد العشرات من افراد الشرطة يحيطون القصر ويأمرونه بمرافقتهم الى مركز الشرطة، صرخ بهم: بأية تهمة تقبضون علي, رد احدهم: وهل هناك اسوأ واقبح مما تفعله من تهم؟ هناك في مركز الشرطة عرف كل شيء، اولها واحقرها تعاطي وتجارة المخدرات…. اكتشف أمره وحلت عليه لعنة والديه وإخوته وعاد فكره الى الوراء كيف كان يعامل والديه وكيف تنكر لهما و … و ….

ترى هل يتصل بمحاميه, ام يترك العدالة تأخذ مجراها عقابا له ….

وطالت المحاكمات وفي النهاية وجد نفسه وحيدا داخل قفصه لا احد معه ….

وسمع صوت القاضي يدلي بحكمه ….. لقد حكمت المحكمة على المتهم ( ! ) بعشرة اعوام اما بقية الجرائم فلها حكم آخر ….