فكرة الطائي /
هل تغيرت القيم والتقاليد والعادات الأسرية خاصة والمجتمعية عامة؟ هل ما كنا نؤمن به ذاهب إلى الزوال في زمن العولمة والإنترنت والتواصل الاجتماعي؟ وهل يمكن أن نستبدل بتلك القيم قيماً جديدة تناسب التطور والحداثة؟ هل هذا الاستبدال صحيح ويلائم التطور المجتمعي؟
هذه الأسئلة برزت في ذهني وأنا أفكر في كيفية الدخول لمناقشة الخطوط العريضة لهذا الموضوع مع بعض العائلات من مستويات ثقافية واجتماعية مختلفة، إذ أصبح طغيان العلاقات المادية على المشاعر الوجدانية في العلاقات الأسرية بين الآباء والأبناء، أو بين الأزواج، واضحاً وملموساً، يتخذ أشكالاً عدة في الظهور على مستوى العلاقات العائلية ما بين التودد والزعل والغضب والجحود أو الابتعاد عن الأهل.
المعاناة واحدة
لم أتفق مع ما قدمته السيدة “أسيل رحمان، موظفة، أم لثلاثة أولاد” من رأي خاص أرادت تعميمه، إذ قالت: “أصبحت العائلات العراقية في هذا الوقت متشابهة من حيث المعاناة، فالجميع متذمر من عدم الألفة والمحبة فيما بينهم، وغابت لغة الحوار والمودة والمحبة وحلت مكانها المطلبيات اليوماة التي لا تنتهي أبداً، الجميع يتهم الجميع بالقصور متناسين في الوقت ذاته أن للمشاعر وتأجيج العواطف دوراً كبيراً في تنقية النفوس وديمومة الحياة السعيدة للأسرة.”
وجدت في كلام السيدة “أسيل” كثيراً من الصواب، بعد أن أخذت في مقارنته مع ما سمعت من زميلات وأقارب اشتكوا من هذه الحالة وعدّوها ظاهرة سلبية في المجتمع العراقي لا تمت إلى قيمنا بصلة، وواصلت حديثها: “أذكر لك مثالاً بسيطاً عن العلاقات بين الأولاد والآباء والمثال من داخل أسرتي، أولادي شباب لكني لا أشعر بوجودهم، فعندما أحتاج أحدهم وأنادي عليه لا يرد عليَّ حتى إن كان غير مشغول بشيء، أوبخهم بكلام عنيف لكنهم لا يبالون.”
إنهم يبتعدون
يقول السيد “جاسم محمد، موظف، أب لولد وبنت”: “الماديات لها وقع خاص على النفس البشرية، منهم من يقع تحت سطوتها وينسلخ ممن حوله ويعيش في عالمه الخاص الذي يبني فيه علاقاته مع الآخرين على مستوى العطاء المادي الذي يمكن أن يجنيه من هذه العلاقات، لذلك يذهب بعيداً في مشاعره نحو الماديات مبتعداً عن الوجدانيات ليكون في التالي أشبه ما يكون بالجماد، مجرداً من أية عاطفة نحو الآخرين.”
تلاشي لغة الحب
“قد تأكل الماديات، إذا ما استفحلت، من جرف الوجدانيات فتتقهقر العواطف إلى الوراء متخلية عن أمكنتها البارزة في الحياة الأسرية وذلك مع ظهور ملامح الحياة الجديدة بكل مغرياتها التقنية والتكنولوجية.”
هذا ما تحدثت به السيدة “يسرى عباس، معلمة” لتصل إلى النتيجة التالية: “لقد أدت تلك التقنيات الحديثة إلى تلاشي لغة الحب الحقيقي المباشر وحل محل تلك القيم برود وجمود في العلاقات الأسرية.”
برود المشاعر
“شهد محسن، ربة بيت” قالت: “إن جميع البيوت تعاني بروداً في المشاعر من جراء غياب الآباء والأمهات فترات طويلة عن أبنائهم في سبيل تأمين متطلباتهم لدرجة غيبت دور الأسرة في التربية والتقويم المباشر لبعض السلوكيات التي لا تلائم طبيعة مجتمعنا العربي.”
حكم المظاهر
يقول الدكتور “أكرم فرج الربيعي، باحث أكاديمي ورئيس قسم الإعلام في كلية المستقبل”:
“الحقيقة المرة التي نعيشها اليوم هي إن العلاقات الإنسانية تطغى عليها المادة وتسلبها دفء المشاعر ودفء العلاقة الروحية. العلاقات بين الأسر أصبحت تحكمها المظاهر وافتقرت إلى الجوهر، وربما يعود ذلك إلى الخلل الذي أصاب العلاقات العاطفية الذي تطور فيما بعد فأصبح أزمة، ونشير بهذا الصدد إلى رؤية عالم الاجتماع البولندي (زيجمونت باومان) عندما صاغ نظريته الاجتماعية التي فسر فيها هشاشة العلاقات الاجتماعية وسطحية الحب في العصر الحالي، فقد استعرض في تحليله المركّز الكيفية التي تتدخل فيها سياسات المادة والسوق في خيارات الفرد التي تبدو للوهلة الأولى ذاتية في مظهرها تطال حياته الاجتماعية وترفع من قيم الفردانية والنرجسية على وفق منطق اللذة والاستهلاك، لقد أفرغت الحياة المعاصرة القيم العاطفية وجعلت من المادية والمظاهر والاستهلاك هي الأساس في التعامل في ضوء انحسار العلاقات الإنسانية الاجتماعية المباشرة وبروز بيئة اتصالية جديدة تنظر إلى العلاقات المادية أكثر مما تنظر إلى العلاقات الإنسانية، وظهر ذلك جلياً في محيط الأسرة بانشغال أفرادها عن بعضهم وهم في بيت واحد بسبب انغماسهم في السوشيل ميديا وإغراءاته الترفيهية الكثيرة.”