حسين رشيد /
تركض السنون برويّة ويتقدم معها العمر، إذ تتبلور فكرة تحقيق الحلم الذي يكون عند البعض وإتمام الشرع والدين عند الآخر، فيما يراه طرف ثالث خطوة لابد منها، وليس شراً لابد منه كما يقال عن الزواج، لكن في كل تلك الرؤى وما حولها ثمة طقوس متشابهة ليس في البلد الواحد فحسب، بل في كل أرجاء المعمورة، وهنا أقصد الطقوس (التجميلية والكمالية) وبوجه الخصوص بدلة الزفاف، فمع محافظة النساء على لونها الأبيض المرتبط بدلالة اللون وما يراد لها أن تكون حياة الزوجين من نقاء وسمو وطهر، في حالات معدودة ثمة بدلات زفاف نسائية ملونة غالباً ما تكون بلون (الوردي) الباهت والقريب من الأبيض، فيما تتنوع الموديلات والأشكال وانواع الأقمشة التي تُصنع منها بدلة الزفاف النسائية.
حفلات العطواني
لكن ثمة تطوراً، أو لنقل تغييراً كبيراً طرأ على بدلة الزفاف الرجالية، فبعيداً عن الموديل وشكل (الجاكيت) ونوعه، أو البنطلون وربطة العنق التي زحف إليها التغيير أيضاً، تأتي إشكالية لون البدلة التي أخذت تتنمط مع البيئة وعمر (العريس) ومستواه الاجتماعي.
قبل أيام رأينا مجموعة من الشباب دون العشرين سنة، يتجولون قرب محال بيع الملابس والبدلات في شارع الكرادة داخل، لكنهم يتذمرون من الأزياء المعروضة، أحدهم أشار إليهم بالذهاب الى شارع فلسطين، حيث سيجدون مبتغاهم حسبما يتضح من كلامه، الفضول دفعني لمعرفة ما يبحثون عنه، وبعد سؤال ملاطفة تبيّن أن أحدهم عريس وموعد زفافه بعد أيام وهو بصدد البحث عن بدلة (زفاف) وحين أشرت لما معروض قال: أبحث عن ألوان أخرى تكون لافتة للنظر، وتظهر بشكل جميل بالتصوير، يعني مثل حفلات “العطواني”. هنا توجب عليّ أن أسأله سؤالين: الأول عن “حفلات العطواني” والآخر عن لون البدلة التي يريدها، لكن أحد الشباب تبرع بالإجابة قبل توجيه السؤال، وأخرج هاتفه النقال الحديث، وبحث في اليوتيوب وإذا بعشرات المقاطع عن تلك الحفلات التي تظهر شباباً بالعشرينات يرتدون بدلات حديثة بألوان القوس قزح المشعّة وربطات عنق بألوان أكثر إشعاعاً ومنهم من ارتدى (فيونكة) ملونة أيضاً، أما تسريحات الشعر والألوان فكانت شيئاً مغايراً جداً لكنها تتلاءم مع شكل وأنواع البدلات حتماً، التي وصفها أحد الأصدقاء الأدباء “بأنها بعد مابعد بعد الحداثة”.
بدلات للإيجار
بدلة الزفاف لم تكن بعيدة عن رحلة الوجع العراقي في حصار التسعينات الاقتصادي، فمع تدبر مستلزمات الزفاف: الأثاث المتواضع والذهب الذي غالباً ما يقتصر على خاتم الزفاف وزوج أقراط تأتي عقبها بدلة الزفاف، فالنسائية وحتى اليوم يتم استئجارها من محال خاصة أو من صالونات ومراكز التجميل كونها بدلة مناسبة واحدة. فيما طرأ تغيير كبير على الرجالية، والتي كانت تؤجر من محال بيع الألبسة التي تعلن عن ذلك في إعلان صغير يعلق على واجهة المحل (الجامخانة): (تتوفر لدينا بدلات زفاف حديثة للإيجار وبأسعار مناسبة)، وهنا تأتي مشكلة البحث عن القياس والنوع واللون الذي في الغالب (أسود أو أزرق نيلي) أو في بعض الأحيان تستعار من صديق أو قريب.
في تلك السنين اشترى أحد الأصدقاء بدلة زفاف بعد أن خصص لها مبلغاً خارج نفقات الزواج، إذ تبيّن فيما بعد أن (البدلة) كانت مشاركة مع عدد من أصدقائه ممن يقبلون على الزواج بعده، وفعلاً كانت فكرة لطيفة وقتها، رغم أن ثمن البدلة قياساً بتكاليف الزواج مبلغ يمكن تدبره، لكن الجميع يسأل ماذا أفعل بالبدلة بعد الزفاف؟ لذا كان الاستئجار أو الاستعارة.
استعارة دائمية
وهناك من لايملك ثمن البدلة كونه تدبر مصاريف الزواج بشق الأنفس، كما كان يقول ذلك حين يسأل عن تأخر زواجه، فضلا عن ارتباط ارتداء البدلة في تلك الفترة برجال السلطة والمقربين منهم وقطط الحصار السمينة وثمة حكاية أخرى بهذا الصدد، أحد الاصدقاء وفّر مبلغاً مالياً يمكنه من شراء بدلة شبيهة ببدلة مطربه التسعيني المفضل، سوداء اللون بأربعة أزرار فضية متوسطة الحجم، واختار أول أيام عيد الفطر في إحدى سنيّ الحصار التسعيني كي يرتديها (يكشخ بها)، في اليوم الثالث من العيد جاءه أحد الأصدقاء طالباً استعارة البدلة “ليوم زفافه” ولتتحول فيما بعد إلى “وقف” فتنتقل من عريس إلى آخر، حتى أن البعض ما إن يقترب موعد زفافه أو يبدأ بالتحضير للزواج وحسب التكاليف يضع في حساباته “بدلة الزفاف” السوداء بأزرارها الفضية، ومن جميل الصدف أن عدداً من الأصدقاء ممن تزوجوا بتلك البدلة نشروا صور زفافهم قبل أيام في أحد الكروبات على مواقع التواصل الاجتماعي وهم يشيرون الى تلك المحنة، وفي ذات الوقت أخذوا بنشر صورهم ببدلات جديدة وحديثة .
ابتكار الفقراء
في تلك السنين العجاف، ابتكر الفقراء طرقاً شتى للتغلب على العوز، فمحال الخياطة تضج بالملابس المستعملة التي “تقرّم” لتكون بقياس الأخ الأصغر أو الأوسط بعد أن اشترى الأكبر ملابس جديدة إن كانت للعيد أو المدرسة، فضلاً عن ابتكار طريقة “قلب” البنطلون على الجهة الأخرى بعد أن يكلح لونه، ومن بين المفارقات التي يرويها أحد الخياطين إنه قام بتقريم بنطلون من قياس الأب الى الابن، بعد سنتين جاء الأب وابنه الأصغر يطلبان “تقريم البنطلون وقلبه”، في موعد تسليم البنطلون، جاء الأب ومعه بنطلون آخر يريده بقياس ولده الأوسط، وبنطلون ثانٍ يريد عمل تنورة منه لابنته الوحيدة، الأب وهو يكظم حزنه وغضبه، كانت ثمة دمعة محبوسة بكنف عينيه تأبى السقوط، لكنه حتماً أسقطها ليلاً على الوسادة بحرقة العاجز. ….. في الضفة الأخرى من الحصار، أي الضفة التي تجمع دنانير الفقراء وتحولها الى الآلاف والملايين، بل حتى المليارات من الدنانير، بعد أن كانت العشرة آلاف دينار رقماً كبيراً شعبياً، كان ثمة ترف وإسراف لامثيل له.
الفارق الطبقي
بدلات الزفاف مستوردة والحفلات تقام في القاعات الفارهة والنوادي الاجتماعية، الضيوف من أصحاب المحال والشركات المتنوعة والتي حتماً هناك من يشاركهم من أزلام السلطة آنذاك وكما يحدث الآن، في تلك المحنة كان مرتب الموظف بين الألفين إلى الخمسة آلاف دينار، وسعر الحذاء “الكيكرز” 75 ألف دينار، والجينز ماركة “بلو” 100 ألف دينار، والقمصلة “الجلد” الرئاسية بين 300 الى 500 ألف دينار والبلوز بحدود 50 ألف دينار، فيما كانت بعض العوائل ترتب معيشتها الشهرية بـ(50 او 75 ألف دينار) وبشق الأنفس. ذلك الفارق الطبقي الشاسع تسبب بارتكاب جرائم عدة من خطف وتسليب وقتل إن كان بسبب القمصلة الجلد أو البنطلون الجينز، وثمة من يضع هذه التفاهة في أن يقتل الإنسان بسبب قمصلة أو بنطلون في كفة ميزان مع آخر يقتل بسبب اسمه وطائفته أو بالاشتباه به، لكن غالباَ ما تكتشف الحقيقة بعد تنفيذ الجريمة، في كلا الأمرين هناك جريمة قتل تسبب بها من يقف بعيداً عن الجاني والمجني عليه ضاغطاً على زر التحريك والتحريض مستمتعاً بما يشاهده أو يسمعه أو يقرأه من أحداث كبيرة مروعة لأسباب أقل ما يقال عنها إنها (تافهة).
قبل أيام دعيت الى حفل زفاف شقيق أحد الأصدقاء في إحدى قاعات المناسبات في بغداد، وفي فقرة غنائية أحيط العريس الذي يرتدي بدلة زفاف بلون (أخضر) باهت بمجموعة من أصدقائه ببدلاتهم التي تلونت بكل ألوان قوس قزح، ليسدل الستار على ثوابت وإملاءات الأبيض والأسود.