إيفان حكمت /
عبق الأكلات العراقية يفوح من شوارع مدن العراق ومن بيوت الأزقة الدافئة، “لمَّة” الأهل والأصحاب وقت الإفطار، بركة الشهر الكريم، نغمات “المسحراتي” إيقاع يحبه الصغار والكبار، والـ”ماجينا” في عيون اطفالنا البريئة على مر السنوات تتنفسها الذاكرة.
ورغم اكتساح التكنولوجيا لكل مفاصل حياتنا وتصرفها بشكل واسع، ظل لتفاصيل وطقوس شهر رمضان الخير بريقها وحضورها على مر الأجيال.
الشهر الفضيل، شهر العبادات، شهر المغفرة، هذه الصفات وغيرها يطلقها المسلمون على شهر رمضان الذي يتسم بطقوس خاصة يختلف بعضها من بلد الى آخر.
في العراق، ثمة طقوس خاصة ترافق أيام هذا الشهر المعظم، كتبادل أكلات الفطور والسحور بين بيوتات المناطق، لاسيما الشعبية منها، وكذلك تبادل الزيارات بين العوائل، فضلا عن بعض الصحون التي تفرض نفسها على مائدة الإفطار كالشوربة والتمر واللبن وعصير قمرالدين.
اختلاف الأزمنة
الحاج علي الدهش، متقاعد من سكنة محلة الكسرة وسط العاصمة بغداد، يقول إن أجواء رمضان اختلفت اليوم كثيرا عما كانت عليه قبل عقود. ويضيف في حديث لـ”الشبكة”: في ستينات القرن الماضي كانت الحياة بسيطة نتيجة عدم وجود أجهزة التلفزيون وأية وسائل أخرى، ويكاد الراديو يكون هو وسيلة الاطلاع السائدة على مجريات الأحداث في العالم آنذاك، وجهاز الراديو لم يكن منتشرا كثيرا، حيث ان منطقتنا، على ما أذكر، كان فيها جهازان فقط تمتلكهما عائلتان، لذلك كانت عوائل منطقتنا تتبادل الزيارات الجماعية، وكل عائلة تحضر معها أطباقا معينة متفق عليها، ليبدأ طقس الإفطار الجماعي بعد سماع صوت مدفع الإفطار. أما الآن، والحديث مازال للحاج الدهش، فإن الأمور تغيرت، حيث تلتف العائلة فور الانتهاء من الإفطار حول شاشة التلفزيون لمتابعة المسلسلات التي تتسابق الفضائيات على عرضها خلال شهر رمضان المبارك.
المسحراتي.. ترانيم مختلفة
سحور… سحور… سحور، تلك هي الكلمات التي يترنم بها “المسحرجي”، أو أبو الطبل كما يطلق عليه البغداديون، ويرافق هذه الكلمات صوت الطبل عاليا لكي يستيقظ الصائمون على نقراته ويتهيأون لطقس السحور استعدادا لصيام اليوم التالي.
في العقود الماضية كان مسحرجي بغداد شخصية تراثية معروفة في المناطق البغدادية، بل ان المسحرجي البغدادي غالبا ما يرث هذه المهمة عن عائلته. وقد بقي المسحرجي يجوب ليل المدن في رمضان لإيقاظ الصائمين على الرغم من التطور التقني الحاصل بوسائل الاتصال، إلا أن المسحرجي ظل مستمراً يعمل في بغداد والمحافظات وكثير من مدن العالم العربي والإسلامي، غير ان السنوات الاخيرة شهدت تغييرا في شخصية المسحراتي، حيث بدأ شباب المناطق الشعبية يتولون هذه المهمة ويجوبون الشوارع والأزقة وينقرون طبولهم ويصيحون بنغمات مختلفة لإيقاظ الناس، وأثناء تجوالهم غالبا ما يحصلون على صحون الحلوى والفاكهة من عوائل مناطقهم، وفي صبيحة عيد الفطر المبارك يدورون على البيوتات لتقديم التهاني والحصول على مكافآتهم نتيجة الخدمة التي قدموها طيلة ليالي الشهر الفضيل.
علاء عدنان أحد الشباب الذين يقومون بعمل المسحراتي في منطقة الغزالية يقول: “هذه الشخصية بقيت حتى الآن مستمرة في بعض المناطق، على الرغم من التطور العلمي الحاصل، إلا أن جيلنا والأجيال التي سبقتنا، يحنّون إلى هذه الشخصية.”
ويضيف في حديث لـ”الشبكة”: لكل “مسحراتي” نغمة أو أهزوجةً خاصةً به تميزه عن الآخرين، وفي كل مدينة يكون المسحراتي من أبنائها، حيث غالبا ما تخرج مجموعة من شباب المنطقة مع المسحراتي ضمن طقس جميل وينضم إلينا بعض شباب الأزقة التي نمر بها لإيقاظ الصائمين.”
عصائر وحلوى
محمد جمعة، مسحراتي في منطقة حي أور، يقول لـ”لشبكة”: “تسرنا مناظر الأطفال وسعادتهم وهم يحتفلون مع عوائلهم حين ندور بين بيوتهم لإيقاظهم، انهم يقدمون الينا العصائر والحلويات والفاكهة والمياه.” وعن المعوقات التي تواجههم في اداء مهمتهم يضيف جمعة: “الكلاب السائبة هي أخطر ما نواجهه، خصوصا في المناطق التي تنقطع عنها الكهرباء ليلا.”
مهمة نبيلة
ويقارن السبعيني نعمة عبد السادة بين المسحراتي أيام زمان وفي هذه الأيام بالقول إن “المسحراتي كان يعتمد إيقاعاً معيناً في مختلف المدن، كما انه كان يضيف بعض الأهازيج الى الكلمات المأثورة “سحور..سحور..سحور”، كما أن الكلمات ذاتها تلقى بنغمات مختلفة من مسحرجي الى آخر، في حين ان المسحراتي الآن هو شاب لا يعرف على الأغلب طقوس مهمته، وهو يمارسها وكأنها نزهة ليلية للسير بين الأزقة والشوارع.” وفي كل الأحوال، يضيف عبدالسادة لـ “الشبكة”، انها “مهمة نبيلة يكتسب المسحراتي خلالها احترام أهل منطقته، فضلا عن الأجر والثواب الديني لأنه يساهم في ايقاظ الصائمين للسحور كي لا يتحملوا أعباء الجوع أو العطش في نهارات رمضان التي غالبا ما تكون شاقة وطويلة، خصوصا في صيف العراق القائظ وساعاته الطوال على حساب ساعات الليل.”
المحيبس..لعبة عراقية ضمن التراث العالمي
المحيبس لعبة شعبية تكاد تكون جزءا من الطقوس الملازمة لشهر رمضان في مناطق بغداد الشعبية. وتتلخص اللعبة في ان تكوّن المنطقة فريقاً من اللاعبين ليبدأ التباري مع فريق منطقة أخرى بذات عدد اللاعبين، حيث يتقابل الفريقان ويتم إخفاء المحبس “الخاتم” من قبل كبير لاعبي الفريق في يد أحد لاعبي فريقه، وعلى أحد اللاعبين الكبار في الفريق الآخر اكتشاف اليد التي تحمل المحبس وسط عدد من الأيدي التي تزيد على المائة يد أحيانا، وهذا الامر يحتاج الى فراسة كبيرة تمتع بها عدد من اللاعبين المعروفين في مناطق بغداد، منهم (جاسم الأسود) من أهالي منطقة الكاظمية وهو في العقد السادس من عمره، حيث يعد أخطر لاعب يمكنه استخراج المحبس من بين مئتي شخص، حتى أصبح مضرباً للمثل باللعبة.
يقول أسود ان عثوره على المحبس من بين عشرات الأشخاص يتم بدراسة إيماءات الشخصيات وحالاتهم النفسية، وهي ميزة لا يمتلكها كثيرون، ومهما اشتدت الأعصاب أثناء اللعبة. ان الغاية الأساسية من اللعبة هي تعارف الناس واجتماعهم، وفي نهاية اللعبة يتم توزيع أطباق كبيرة من الحلويات الشعبية مثل الزلابية والبقلاوة، ويطلق اللاعبون والحضور هتافات ويرقصون فرحا بالنتائج. ولأهمية اللعبة، أصدرت وزارة الثقافة قبل ثلاثة أعوام بيانا أكدت فيه سعيها لإدراج المحيبس في قائمة ترفعها كل عامين لمنظمة التربية والعلوم والثقافة اليونسكو لوضعها ضمن الموروث العالمي.