د.قاسم حسين صالح/
” قالوا عني: لقد اختلّ عقله، بل وصفني بعضهم أنني أصبت بالشيزوفرينيا، وان بيني وبين الجنون التام خطوة الهاوية.
والحق أقول، أنني عندما شعرت أن الجميع على خطأ فيما يقولون ويفعلون وأنني وحدي على صواب، وأنهم منافقون يقولون ما لا يضمرون فيما أنا أقول الحقيقة عارية، ادركت عندها أنني أصبحت غريبا” عنهم، فلملمت نفسي قبل أن تنفصم وذهبت الى الطبيب المختص”.
كبش فداء
قال الطبيب: ما من مجتمع على هذه الأرض خال من الأمراض النفسية والعقلية، بل ما من انسان نظيف منها تماما”..حتى الفلاسفة.. بل حتى نحن الأطباء النفسيين.. فينا من انتحر، والفرق بين المصابين بها والآخرين يكون في نوع الحالة ودرجة شدتها.
ولما سألته عن أسباب اصابتي، تبين أنه ليس لي يد فيها، فقد يكون السبب ــ قال الطبيب ــ وراثي..”جينه” جاءتني من جدّ أبي أو خال أمي ، أو ــ وانتبهوا الى هذا ــ ناتجا من تفاعلات حدثت بين أفراد أسرة يعانون من اضطرابات نفسية وسوء علاقات وانعدام استقرار، فوقع الأختيار على طفل فيها يكون كبش فداء، يلقون باللوم عليه ويعدّونه دائما” على خطأ . ولأنه ليس بامكان هذا الطفل قط أن يكون بمستوى مطالب الوالدين وتوقعاتهما لأنها متناقضة (الأب يطلب شيئا” والأم تطلب نقيضه فانه يتقهقر الى عالم خيالي).
ولأنني مررت بهذا الموقف، فانني أسألكم: أكنت على خطأ حين وجدت أنه من المستحيل عليّ أن أتكيف مع عالم أسرتي الذي كان فيه الشجار بين أمي وأبي افتتاحية الصباح وختام المساء.. وأهرب منه الى عالم خيالي؟ ألم يكن هروبي هذا احتجاجا منطقيا من جانبي؟!
الكرة المعجزة..
واخبرني الطبيب بأن البشر يختلفون في قدرة تحملهم للمشاكل والأزمات التي يمرون بها، فمنهم من يجد الذي يسنده في مواجهتها وعندها سيقوى عليها، ومنهم من لا يجد أحدا فيضعف أمامها ويقف وحيدا” في أقسى معاركه، وعندها ستختل وظائفه العقلية. فهذا الدماغ..الكرة المعجزة.. تربط مليارات خلاياه موجات كهربائية وتفاعلات كيميائية معقدة، وحين يختل نظامها يصاب الانسان بحالات من الذهان. وما أن تظهر بوادره عليه حتى يبدأ الناس يتهامسون بأنه أصبح ” مجنونا” ” ويغدو في نظرهم انسانا” يستثير الشفقة.. والسخرية.. والفزع!.
وفهمت من الطبيب سرّا” افزعني لكنني تقبلته منه لأنه الحقيقة، وها أنا أفضي به اليكم، قال:
أن حال من يصاب بهذا المرض “الشيزوفرينيا” يكون اشبه بحال من يتدحرج من قمة جبل الى السفح، وأن مهمة الطبيب المعالج هي التخفيف من سرعة تدحرج المريض، وأن شفاءه مرهون بموقف أسرته منه، وموقفكم أنتم.. أيضا”.
وصمة عار
قلت له: لكن أهلي، وأنتم أيضا”، تنظرون لمن يتعرض حتى للاصابة بأخف الأمراض العقلية، أن حاله ميؤس منه. وعاتبته قائلا: لنفترض يادكتور أن حالي شبيه بحال من يصاب بأخطر أمراض السرطان الذي لاشفاء منه، فان هذا برغم توقعه الأكيد للموت يبقى متشبثا” بالحياة.. تساعده أسرته وتغذّ الأمل فيه. أو ليس من حقي أنا ان اتشبث بالحياة أيضا”؟ وأليس من واجبكم أنتم، أهلنا ومجتمعنا، أن تساعدوني على التعلق بالحياة؟!.
والأقسى، أيها العقلاء، أنكم تودعوننا في مشافي الأمراض العقلية وتهملوننا فيها. وحتى لو شفينا فأنكم لا تعيدوننا اليكم لأنكم تعدوننا “وصمة عار” وتنسون أنكم كنتم أنتم السبب، أو في الأقل شركاء في صنعها! فأنا هنا من عشر سنين، وبرغم أن الأطباء قالوا لأبي أنني شفيت فأنه رفض أن يعيدني الى بيته لأن لديه ثلاث بنات لن يتزوجهن أحد اذا علم أن أخاهنّ كان في.. الشماعية!