غيوم في ثنايا الروح

رجاء خضير /

العقل والقلب يقفان على مفترق الطرقات, هما متضادان, ولكنهما قد يلتقيان أحياناً …… ومهما بعدت المسافات بينهما، إلا أن قول الحقيقة والحق يجمعهما ليزيلا غيوماً تلبدت في ثنايا أرواح أبرياء أمطرتهم بعذابات لا تتحملها أقوى النفوس, فكيف ببراعم جاعت بطونها وتعّرت أجسادها تحت وطأة الفقر …. لعن الله الفقر.

نزح مع عائلتهِ الى العاصمة بغداد، لأن محافظتهم تعرضت لدمار كبير, واغلقت المدارس لهذا السبب, تركوا كل شيء هناك: المال والسكن والأعمال وبدأوا يبحثون عنها في مدينة مزدحمة بأهلها والقادمين اليها من بقية المحافظات ليتخلصوا من الجحيم ايضاً.
بحث والداه عن عمل ما, اي عمل فقط ليسددوا ايجار البيت ولقمة عيش أخواته الخمس وثلاثة أشقاء جميعهم أصغر منه .لذا فكر أن يعمل ايضاً، لا سيما وانهم جميعاً اصبحوا بلا مدارس. حاولت أمه أن تمنعه عن العمل وان ينتظر السنة الدراسية الجديدة, لكنه أصر على البحث عن العمل, وقد ضحك له الحظ حينما عمل في فرن الصمون القريب من بيتهم, وهذا ما أقنع الأم بعملهِ.

من يومها لاحظ أن والده كفّ عن البحث عن عمل في حين أن والدته بدأت تخبز في البيت وشقيقتهُ الصغيرة تبيعه على البيوت المجاورة, خشي من مصارحة والده بأن أمه مريضة وعليها أن لا تجهد نفسها بهذا العمل لاسيما وقت القيظ، فصارح والدتهُ بأن تكف عن العمل وأنه سيعمل صباحاً ومساءً، تألمت له وهي ترى عوده يذبل أمامها ما دفعها ان تصارح الوالد، الذي يأكل ويشرب وينام ولا يعرف من اين تأتي هذه المصاريف, وعن اي اسلوب. تحدثت معه طويلاً ومرات عديدة ان يراقب ابنه فعمره لايتجاوز الرابعه عشرة وهو يعمل ليل نهار, طلبت منه ان يساعده في العمل ولكن دون جدوى، لقد استراح من ثقل المسوؤلية وهموم العيش حينما ألقاها على عاتق صبي صغير لا يعرف من امور الدنيا سوى العمل والنوم بملابس العمل من اجل عائلتهِ. ازدادت الخلافات بين الزوجين لهذا السبب, وحينما تدافع احدى بناته عن أمها ينقضّ عليها كوحش ينقضّ على فريستهِ, ويأتي الصبي من عمله ليسكتهم جميعاً بما جلب معه من طعام للبيت, اما النقود التي يحصل عليها فهي حصة والدهم, الذي يهدأ, ثم يرتدي ملابسه ويخرج الى اصدقائه في المقاهي.
مرت الأيام على هذه الوتيرة وازداد مرض الأم ومعاناتها من تصرفات زوجها, وايضاً ألمها وهي ترى ولدها مشتت الفكر خائفاً من شيء لا تعرفهُ, فعزمت أن تزوره في مكان عملهِ …. ذهبت الى هناك، لم تره في البداية، وبفراسة الأم وخوفها على اولادها تطلعت في وجوه العاملين وسمعت احاديثهم ثم ظهر ابنها من غرفة صغيرة ليأخذ دوره في العمل امام الفرن, وما ان شاهد أمه حتى ارتبك وشحب وجهه وأسرع نحوها يسألها عن سبب مجيئها وهل حصل شيء لإخوته و…و… اجابته بحزنٍ واضح .. لا شيء فقط أردت أن أعرف ماهو عملك هنا , طلب منها ان تعود الى البيت وهناك سيشرح لها ما تريد.

عادت بخطوات ثقيلة الى البيت لترى زوجها مرتدياً ملابسه هاماً بالخروج، سحبته من يده الى الداخل واشعلتها ثورة عليه وطلبت منه ان يعمل هو بدلاً من ابنهما خشية عليه من الضياع في تيارات الحياة وهو بعد لا يعرف من الدنيا شيئاً، دفعها بقوة وانهال عليها بالضرب والسب ولم يستفسر عن سر حزنها حينما عادت من رؤيته بل والأقسى من هذا بحث في جيوبها عن نقودٍ قد تكون حصلت عليها من ابنهما.

خرج الأب ليدخل الابن على أمه ويسألها عن سبب زيارتها ولماذا تصرفت مع زملائه بعصبية واضحة. لم تشرح له مخاوفها بل اكتفت بأن طلبت منه ان يترك العمل فوراً, وهي واخواته يعملن سواء في البيت او حتى في بيوت أخرى، توسل عن سر هذا القرار, اجابته بشدة : لم أرتح لمن معك في العمل.
لماذا يا أمي؟ جميعهم يحبونني وقد زادوا أجري، اجابت بدموع ساخنه: وهذا ما يخيفني يا ابني!! عاد الأب مبكراً على غير عادته، وحينما رأى ابنه بقرب أمه سحبهُ وبدأ يضربه بين ذهول جميع من في البيت والجميع يصرخون لماذا تضربه … فكرت الأم لحظتها أنه ذهب الى محل عمله وقد عرف تصرفاً خاطئاً لابنهما او …. وحينما عرفت أنه اتهمه بأنه هو منْ يحرض أمه عليه تهاوت نحو الأرض وهي تسمع كلماته, أين النقود، اين النقود. من خوف الصبي أخرج ما حصل عليه من أجره واعطاها اليه ليخرج ويترك البيت في هرج ومرج. سكتت الأم حتى عن نصائحها لابنها, ليذهب هو ثانيه الى عمله.

تعوّد على ضرب والده ان تأخر عن اعطائهِ النقود, وعلى صمت أمه وحزنها العميق وطلبات اخواته اللاتي هو المنقذ لهم والذي يسد احتياجاتهم.

مرضت احدى شقيقاته واقترح عليهم الطبيب المعالج اجراء عملية سريعة لها, واحتارت العائلة من اين تتدبر المبلغ, فما كان من الأم الا واستعانت بالنساء الخيرات في المنطقة فجمعن لها جزءا من المبلغ اما بقية المبلغ فقد جاء به شقيقها مبرراً لأمه أنه استلف منهم بضمان عملهِ ….

نجحت العملية وفرح الجميع بشفاء شقيقتهم، اما الوالد فأبدى للطبيب المعالج بأنه الوالد الحنون الذي وفرّ لابنته المريضة ماتحتاجهُ بل والأمر من هذا كله ذهب الى حسابات المستشفى لعله يسترجع بعض النقود … وحينما أخبره المحاسب بأن عليهم دفع المتبقي عليهم اعتذر وخرج من المستشفى بسرعة حينما دخل شقيقها ودفع ما تبقى بذمتهم.

بعد أيام بدأت المشاجرات ثانية بين والديه , ما اضطره ان ينام في الفرن, لايأتي الى البيت الا نادراً, أما الأم فزادت معاناتها بسبب مكان عملهِ غير المريح, ولماذا يعطونه هذه المبالغ كلما أراد منهم, ترى هل يعمل عملاً (!) او يتاجر أو يتعاطى معهم (!) أم يستغلون براءته وطفولته واحتياجه لأعمالٍ أخرى!!

وتساءلت: ترى كيف أعرف الحقيقة؟ أهلي في محافظة أخرى ! وايضاً اهل زوجي ! أنا غريبة هنا : بعدهاقررت أن تحدث والده عن كل التفاصيل وتطلب منه ان لا يضربه بل يشجعه على مصارحته بكل تفاصيل عمله، وهكذا فعلت, ليخرج الأب ثائراً الى مكان عمله ليشعلها ثورة على جميع من فيه, وبالكاد استطاعوا تخليص ابنه من بين يديه ليسرع احد العاملين ويأخذه معه بسيارته, ظن الجميع أنه ذهب به الى المستشفى لأن الدماء قد غطت وجهه من ضرب والده له … ولكنهما لم يعودا …. انتظر الجميع عودتهما، أهله ولاسيما أمه التي لم تفارق المكان! اما والده فقد هرب خشية من ابلاغ الشرطة عنه, عاد الجميع الى بيوتهم, واجبروا أمه بالعودة ايضاً آملين ان يعودا. وهي تتمتم أنه لن يعود اليها ابداً فأضربت عن الطعام لحين عودتهِ، هما ( هي وأبوه ) كانا السبب في تدمير نفسيتهُ وقتل احلامه الطفولية البريئة, وزجّه في عالم لا يملك سلاحاً لمقاومة مغرياته، عالم يقدم له الراحة والنسيان والهروب من والده الذي لا يعرف سوى لغة الضرب، وبيت احتياجاته تكبر وتتنوع وهو لا يعرف كيف يسد احتياجات اخواته (الصبايا) اللواتي يكبرن مع الأيام.

اشتد غضبها على زوجها وقررت الانتقام منه لابنها. عاد الوالد بعد أيام ليبين لها وللناس أنه يسأل عن ابنه وأنه متوجع كثيراً على فراقه, فصرخت في وجهه: حزين عليه أم على النقود التي كنت تحصل عليها منه, انت السبب في كل شيء, لقد دمرته ودمرتنا جميعاً، فقدت السيطرة على اعصابها وهو يضربها بل وكاد يخنقها لولا ابنتهُ التي طعنته بسكين المطبخ في ظهره وخلّصت أمها، ولكن ماذا كان الثمن؟ أخذ السكين منها وضربها وهي تتوسل به لا يا أبي … لا تقتلني لقد انقذتُ امي منك , دقائق وقعت الفتاة نحو الأرض تسبح بدمائها لتصبح العائلة بين مطرقة التفكك والفقر وبين سندان المستقبل الغائم … وما زالت القضية في أروقة المحاكم …..