آيه منصور حسن/
مع تزايد متطلبات الحياة والضغوطات المادية والنفسية أو حتى القناعة التامة، تقع النساء العراقيات في فخ المواجهة مع المجتمع، وذلك لقيامهن بأعمال يعتبرنها «طبيعية» وبرغبتهن الخاصة، لكنها تبقى «مرفوضة» من المجتمع وغير مقبولة بتاتا.
الأفضل أن تبقي جائعة
ترى سارة أن عملها كنادلة في أحد مقاهي بغداد -قد يغنيها عن مساعدة أحد أو «منيتّه»، خصوصا من الأقارب الذين استحوذوا على منزلهم بداعي الميراث وتركوهم في مهب الريح. كل هذا هو أمر طبيعي بالنسبة الى فتاة فقدت والدها في انفجار لم يترك لها معيلا ولعائلتها المكوّنة من خمس نساء لا يملكن مصدر رزق غير راتبها. لكن هذا العمل لا يناسب الآخرين الذين يجدون فيها فتاة «رخيصة»، لقضائها ساعات طويلة خارج البيت وانخراطها مع شبان لا تعرفهم. تقول لي بعين حزينة وعبارات متلكئة:
– «الجميع يحتقرني بنظراته، لكن هل سألوا أنفسهم: من أين سنأكل؟ فلقد تبرأ منّا أقاربي لمجرد عملي في المقهى، لكنهم لم يفكروا أن يجدوا لي عملا ولو كمنظفة في دوائرهم، اخرج صباحا وجميع من في المنطقة ينظر إلي بريبة وكأني مجرمة أو لصة. اتعرض لمشاكل عدة لدى خروجي وعودتي في وقت متأخر من الليل ولا أحد يفكر بمحاولتي العيش.. لا أحد.
وتؤكد سارة تعرضها الدائم للاستفزاز من رواد المقهى الذين يظنون هم أيضا أنها مجرد جسد قد يستسلم لهم مقابل حفنة من الأموال. فتتعرض غالبا لمشاكل تنتهي باستسلامها من أجل البقاء في العمل.
-مع هذا كله. في لحظة تسلمي الراتب وتقديمه لوالدتي وأرى ابتسامتها, أنسى كل هذه المصاعب وكل ما أسمعه طوال الأيام.
«تطبعّنا على الرفض»
أما الممثلة شروق الحسن فتجد أن «التمثيل هو المهنة الأصعب في مجتمع لا يرتضي للمرأة بأكثر المهن شيوعا مهما كانت أهميتها، فكيف بالتمثيل!».
تقول: «تقبلت الرفض، بمحاولاتي كسر هذه الحواجز بيني وبين المجتمع، بدخولي هذا الوسط بكامل تهذيبي ومبادئي. وبرغم هذا، تعرضت لصعوبات عدة، كنت اطردها من عقلي لإيماني أن ما اتعرض له، قد تتعرض له أي فتاة تهوى العمل. جميعنا تطّبعنا على الرفض وتقبل هذا الرفض حتى صار جزءا منا. لكن هذا لا يعني الرضوخ له أو مجاراة قرارات أصحابه».
وبرغم ذلك تؤكد شروق عدم نيتها ترك عملها أبدا، معللة ذلك بقدرتها على محاسبة المسيء لكونها صاحبة الحق، فهي لا ترى في التمثيل سوى مهنة تحبها وستظل وفية لها حتى انتهاء رغبتها بها، مشيرة الى أن «الوقت بمروره أصبح كفيلا ليتيقن الآخرون أن الشرف لا يرتبط بمهنة معينة، اذ أن الحكم المطلق على أن جميع الممثلات هن سيئات، فقط لسماعنا بوجود فنانة سيئة».
-المجتمعات بنت أنفسها، بانفسها دون حاجة لأحد. الممثل محترم في كل مكان. الا هنا فهم يرونه بلا أخلاق. الأخلاق أمر نسبي وفردي ولا يمكن تعميمه. واذ اردنا حسب كل هذا. فأين الأخلاق مما يحصل للبلاد من انتكاسات؟
«نظرة الكراهية شاملة».
أما نادية صاحبة احدى الصالونات النسائية في بغداد فتضحك كثيرا عند توجيهي سؤال لها:
-لم هنالك علامة اكس على كل صاحبة صالون؟
بعد الضحكة تجيبني:
-حقا لا أعلم. حسنا ومن يلون شعر زوجاتهم؟ ومن يرتب النساء عند زفافهن؟ ومن تريد أن تتجمل أمام خطيبها أو زوجها فتأتينا. هنالك مغالطة كبيرة ونظرة ظالمة حقا. اشعر بالألم من كل ما اسمعه أو اراه من استحقار لكل من تعمل في مركز تجميلي. اظنها نقمة.
وترى نادية ان التجميل صفة نسائية محببة, والجميع يلجأ اليها. وان ربط الشرف والأخلاق عند كل صغيرة وكبيرة ما هي سوى محاولات «فاشلة» لطمس الحياة هنا وبكل وسيلة كانت.
-كل من يتحدث بالشرف والأخلاق وهذه المسميات عليه أن يراجع نفسه أولا.
ملاك رحمة وسط ذئاب.
الممرضة لم تسلم أيضا. إذ «ملاك الرحمة وسط الذئاب» لم تفلح بانقاذ روحها من عبارات التسقيط الأخلاقي.
تقول مها التي تعمل في مستشفى حكومي:
-بدءا من الدكتور وحتى عامل التنظيف في المشفى. بعضهم يتحرش وبعضهم يحاول التملق والبعض الآخر يتوقعني بلا عائلة لكوني أنام خارج المنزل بعض الأحيان. «الخفارة» ليست بالأمر المعيب على الاطلاق. وهذا ما يفعله الجميع في المستشفيات فلم نحن وحدنا من يقع علينا الاتهام؟
اصرت على ذكر الكلمة مع ذكرها لحادث حصل معها
-مرة ولشدة ارهاقي لم اتمكن من وضع «المغذي» بصورة صحيحة بيد المرضة. الأمر الذي اضطرها للتألم قليلا مع اعتذاري المتكرر لها. هذا ما دفع زوجها ليصرخ علي وسط الجميع ممن كانوا في الردهة بالقول:
-مع من كنت نائمة يوم امس حتى تكوني مشوشة هكذا؟
ولم يفعل احد ما شيئا. تركت كل ما في يدي وذهبت بعيدا لأبكي وحدي.
وترى مها أن كل ما تسمعه هي والأخريات ممن يمتهن مهنا غير مناسبة للمجتمع. لن يوقفهن اي شيء على الاطلاق.
-نحن نعرف من نكون جيدا ما شأن البقية؟ سنستمر وستستمر هذه الصورة. لن تغير بذلك شيئا على الاطلاق ولن نتخاذل.
لاعادة تدوير الفكر المجتمعي
وترى الباحثة آمنة عبد النبي أن «اعادة تدوير الفكر المجتمعي وتنقيته من العقائد العرفية المغلوطة قد تبدو في غاية الصعوبة. وغالبا ما تنتهي بتحاشيها تفاديا لتصادم حتمي». وتضيف: «هناك مهن نسوية ورجالية لكن تحوطها هالات الاستقذار المجتمعي ومتلازمة الرخص إذا مارستها المرأة لا الرجل، لأنّها ستوضع فوراً في خانة الرفض المجتمعي علماً ان تلك المهن كالممرضة أو الممثلة أو الرياضية هي شراكة ثنائية مع الرجل غير أنّ نصيبه من التسقيط محذوف تماماً، بل يتعدى الأمر الى أكثر من النظرة الاجتماعية وبعدمِ اشراكها الحياة الزوجية أو معاملتها كما لو كانت موظفة كأي موظفة في مهنة أخرى وانّما تكون مُباحة للمضايقات وورقة مستهدفة للتلاعب واللهو من قبل ضعاف النفوس».
وتؤكد عبد النبي «وجود تصورات راسخة وضاربة الجذور في الذهنية وهي تحتاج في معالجتها لإلحاح فكري ووعي متكرر لاقتلاعها، حيث ترى أن العمل في كل مكان فيه مخالطة للرجال ويشمل السيئ والجيد. لكن مجتمعاتنا الشرقية تربط منظومة الشرف وتوثقها بعادات العرف المغلوط والتوارث التربوي ومفاهيم التنشئة الاجتماعية المدجنّة بالعيب، لا الصح والخطأ وفقاً لسلوك الفرد ذكراً كان أم أنثى. ولهذا نجد تسرب الكثير من المظالم النسوية الجائرة ومنها البخس الوظيفي بحق المرأة فقط».