أجمل صيام

#خليك_بالبيت

حسن العاني /

شيء لا يصدق لأنه يفوق الحلم و يتجاوز الأماني، هو ذلك الدلال المفرط الذي حظيتْ به طفولتي ، والغريب إن مصدره والقائم عليه هو (خالتي) أم يوسف، ولم أدرك السبب إلا بعد أن بلغت مبلغ الشباب، ذلك لأن ( والدتي) يوم انتقلت الى جوار ربها ، كنت أصغر أشقائي، ولي من العمر عشرة أشهر، وإذن فخالتي يوم قدمتني على أولادها، وربما أحبتني أكثر مما أحبتهم، إنما كانت تعوضني عن فقدِ الأم وحنانها!!
ما مرَ صيف من مرحلة الطفولة التي تعود إلى أواخر أربعينات القرن الماضي وأوائل الخمسينات، إلا وحضر يوسف الى بغداد حيث أسكن مع أسرتي، وإصطحبني معه إلى مدينة (عنه) عند أعالي الفرات لتمضية العطلة الصيفية، ولا أظن إن مذاق هذه المدينة التي تغفو على وشوشة الفرات وغناء النواعير، يمكن أن يغادر الذاكرة والروح ولم يكن أبي يرفض طلبا لخالتي التي كنت مدللها الذي لا يُرد له طلب، وهو ما دفعني لأعلان دكتاتوريتي وممارسة أبشع أنواع الأستغلال في سلطتي وأوامري وطلباتي!!
في عام لا أذكر رقمه، سافرت كالعادة مع إبن خالتي (يوسف) – كان يكبرني بخمس وعشرين سنة- الى (عنه) التي لم تتغير، ومازالت تحافظ على سحرها، شريط طولي لا أول له ولا آخر، كما تراه طفولتي، من أشجار النخيل والفواكه والمزارع والبيوت المختبئة في وسط غابة خضراء.. وما هو إلا يوم على وصولي المدينة حتى شاءت المصادفة أن ترتفع أصوات الجوامع والمصلين والناس بالدعاء إحتفاء بحلول الشهر الكريم و.. وفي أول يوم رمضاني، وأنا أخرج الى الشارع، فوجئت بأن الأطفال من عمري جميعهم صائمون، حتى الذين هم أقل من عمري، فيما كنتُ الاستثناء الوحيد في الشارع الذي أصدر لنفسه فتوى تُبيح له المجاهرة بالأفطار، وفجأة صرختُ مذعورا من شدة الوجع، كان الألم فوق طاقتي، لأن شحمة أذني إصطادتها أصابع غليظة لرجل غليظ الأخلاق، متعافي الطول والعرض والجسد، وهو يسأل عن إسمي وسكني، وزاد من حنقه حين عرف إنني من (بيت خالد العلي) وإن جدي هو (الملا عبد اللطيف) الذي كان في حياته من وجهاء المدينة المعروفين ورمزا من رموزها الدينية وقادني من اذني كما يقاد الخروف إلى مذبحهِ حتى أوصلني إلى بيت خالتي وراح يؤنبها لأن واحدا من ذرية (الملا لطيف) لا يلتزم بحرمة رمضان ويجاهر بالأفطار كأنه كافر و.. وخلصتني خالتي من قسوته وهي تعتذر لأن ( الولد من بغداد وليس من هنا) وإنصرف الرجل غاضبا فيما لم أتوقف عن البكاء وتوجيه الشتائم التي إستحضرتها خصيصا من ذاكرة الكرخ الشعبية!!