عواد ناصر/
الأساطير أنواع، منها ما يدخل في باب التخيل وتأليف ما لا يأتلف ولا يقبله العقل، لكنه لا يخلو من حكمة أو أمثولة، ومنها ما دوّنه المؤرخون على أنه شهادة موثّقة مع ذكر مصادرها، وما يسمى، قديماً بـ «العنعنة» أي قال فلان عن فلان عن فلان… إلخ.
والشيخ أبو الحسن المسعودي من مؤرخي العرب المشهورين وله كتاب شهير من أربعة أجزاء اسمه «مروج الذهب» وهو واحد من كتب عدة لهذا المؤرخ لكن أغلبها ضربته يد الضياع، كما يقال، لكنه، في مروجه هذه، جمع حكايات وعلوماً وأحداث الأوائل ومعارفهم وأيامهم منذ الخليقة حتى ملوك وأمراء العرب والمسلمين وخاصة الناس وعامتهم أيضاً، وهو سِفرٌ كبير ضم بين دفتيه توثيق أخبار الأمة بكل ما فيها من دراما الحياة وعناصرها المكونة من المفرح والمحزن والبليغ والمسلي.
ومن حكاياته أن الواقدي، صاحب السير والمغازي، قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا كَنَفْس واحدة، وحدث أن واجهت ضيقاً وعسراً شديدين وحل العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة وأما أولادنا هؤلاء فقد قطّعوا قلبي حزناً وحيرة، ألا رحمة بهم وهم يَرَوْن صبيان الجيران قد تزينوا في العيد وأصلحوا ثيابهم وارتدوا أحلى ما لديهم، بينما صبياننا على هذه الحال من الثياب الرثّة فلو تدبرت شيئاً تصرفه في كسوتهم، ففكرت ملياً حتى رأيت أن أكتب لصاحبي الهاشمي أسأله العون في شدتي وعسر حالي فأجابني بكيس مختوم ذكر أن فيه ألف درهم. وما أن سعدت وقرّ قراري وفرحي لأولادي حتى كتب لي صديقي الآخر يشكو لي مثل ما شكوت إلى صديقي الهاشمي، فبعثت إليه بكيس الدراهم، نفسه، وخرجت إلى المسجد مستحياً من امرأتي وخجلاً من فعلتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما فعلت ولم تعنفني ولم تلمني، فبينما أنا على تلكم الحال أرى أولادي بثيابهم الرثّة ليلة العيد فيزداد ألمي ويشتد غمّي، وإذا بصاحبي الهاشمي ومعه الكيس نفسه بهيأته وختمه، فقال لي: أصدقني بما فعلته بما بعثته إليك من دراهم، فأخبرته بما جرى، فقال: إنك سألتني العون في شدتك وضيقك فبعث لك بما أملك في هذه الدنيا ثم كتبت إلى صديقنا أسأله المواساة والمعونة فما كان منه الا أن بعث لي بكيسي وعليه ختمي، فتباحثنا في الأمر حتى توصلنا إلى أن نقتسم الدراهم، بعد أن رفعنا منها حصة المرأة مئة درهم.
كان هذا خبرنا، ليلة العيد، حتى بلغ خبرنا الخليفة المأمون فدعاني مستوضحاً ومستزيداً، فشرحت له ما جرى فما كان منه إلا أن أمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل منا ثلاثة آلاف دينار وللمرأة ألف دينار.
وصدق من قال:
ولرب نازلةٍ يضيقُ لها الفتى….. ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمتْ حلقاتها…. فُرِجتْ وكنت أظنها لا تُفرجُ