حسن العاني/
ما تحتفظ به ذاكرتي من أواخر أربعينات القرن الماضي، وما أعقب هذه المرحلة من عقود الخمسينات والستينات، أن البنات كانت لهن ألعابهن الخاصة، مثلما كانت للأولاد كذلك ألعابهم الخاصة بهم، باستثناء بعض اللعب المشتركة، وهي قليلة، مثل لعبة “الصقلة” و(غمّيضان).. ويلاحظ أن فصيلة البنات عادة لا تقرب من ألعاب الأولاد كالدراجات الهوائية والمصارعة والدعبل والجعاب وبلبل حاج وكرة القدم والطيارات الورقية وسبع حجارات.. الخ، ويقال الشيء نفسه عن الأولاد، فهم في العادة لا يقربون من ألعاب البنات مثل (بيت ابو بيوت) وطمّة خريزة والتوكي وعريس وعروسة.. الخ (لا يصح الاحتكام الى مرحلتنا الراهنة بالطبع بعد أن تولّت الحرية رفع الحواجز في كل شيء بين الأولاد والبنات)!!
ويلاحظ كذلك، أن أغلب الألعاب الطفولية القديمة قد انقرضت حالياً، وربما لم تعدْ معروفةً للأجيال الجديدة التي تتعاطى ألعاب الموبايل والكومبيوتر.. والحقيقة فقد استوقفتني كثيراً لعبة “طمّة خريزة”، وللتعريف السريع بهذه اللعبة البناتية، أقول إنها تقوم على استعمال كمية من الرمل أو التراب الناعم، حيث يتم تقسيمه الى عدد من الأكوام الصغيرة، وإخفاء الخرزة في هذا “الكوم” أو ذاك، والبنت الرابحة هي من تعثر على الخرزة.. والربح مادي، أي أن الفائزة تكسب الخرزة، وعلى الخاسرة إخراج خرزةٍ جديدة من جيبها، وقد تطورت هذه اللعبة لاحقاً، عندما أصبحتِ الأعمار الشبابية من البنات تمارسها، وتم إبدال الخرز بالعملات المعدنية!!
تركيبة الاسم هي التي استرعت انتباهي أكثر من أي شيء آخر، وحين عمدت الى تفكيك هذه الكلمة المركبة، توصلت من غير مصاعب تذكر الى أن مفردة “خريزة” هي صيغة تصغير لمفردة “خرزة” كقولنا (لحمة- لحيمة.. بضم اللام).. الخ، واذا كان هذا هو معنى “خريزة”، فما المقصود بكلمة “طمّه)؟! في استعمالنا الشعبي نستعمل “الطم” بمعنى الدفن أو التغطية، فنقول “طمّينه الحفرة” أي غطيناها أو دفنّاها أو ملأناها تراباً.. لا فرق.. ونستعمل بالمعنى نفسه “طمطم” أو (طمطمة)، وهذه الكلمة هي تكرار للمقطع أو الفعل “طمّ” والمراد بالطمطمة كذلك، الدفن أو الإخفاء أو التغطية، ونستعمل كلمة الطمطمة في بعض الأحيان استعمالاً معنوياً أو مجازياً، فنقول مثلاً “فلان طمطم موضوع الزواج”، أي غطّاه وأخفاه وتستّر عليه حتى ضاع الموضوع برمّته، مثلما نقول (الجماعة طمطموا القضية)، أي سكتوا عليها، ولعبوا لعبة ذكية جعلت الآخر، أي صاحب القضية، ينساها أو يتنازل عنها مكرهاً، الخ..
الحقيقة كنت أظن أن الطمّ أو الطمطمة من مفرداتنا الشعبية الشائعة والمعروفة في لهجتنا العامية، لولا أنني اكتشفت مصادفة، أن هذه الكلمة عربية عريقة من أصول قحطانية عدنانية، حيث تذكر القواميس أن (طمّ-يطِمُّ-يطُمُّ) البئر، أي سوّاها ودفنها، والطمّة يراد بها: ما طُمّ في الرماد من الجمر، أي (الجمر المدفون في الرماد).. الخ، ولا تخرج الطمطمة عن هذه المعاني، وكنت أظن أمراً آخر، وهو أن لعبة “الطمّةخريزة”، هي لعبة البنات الصغيرات التي اختفت منذ خمسين سنة تقريباً، ولكن ظنّي لم يكن في محله بعد أن انتبهت إلى أن هذه اللعبة عادت إلى الظهور من جديد بكل قوة، والأغرب من هذا، أنها لم تعد خاصة بصغار البنات ولا المراهقات، وإنما بكبار الرجال، وأن ثلاثة أرباع مسؤولينا، منذ عام 2003، وإلى عامنا المبارك هذا، وهم يطمطمون القضايا بلا كلل ولا ملل، ومازالوا بالهمّة نفسها يطمطمون ويطمطمون.. حتى أصبحنا جمرةً مدفونةً تحت الرماد..