أم الربيعين!

شهد الراوي/

انزلي وتدحرجي من سطوحكِ العالية ..

كما لو أنها تشبهنا تماماً حين كان في حوزتنا ذلك الإيمان العميق أن كل ما سيحدث من كوارث سيصل الجميع إلا نحن ..!

أتذكر أني، وعندما كنت طفلة، كنت أشعر أن من المستحيلات أن يتم إلحاق الأذى بي.. بأي شكل أو نوع..

وكلما كبرت وزادت مصارعتي لهذه الحياة كنت أمشي بجانب ما يسمى “بالأذى” مغمضة العينين غير مدركة أن هذا الذي يحصل معي أنا..

أنا المحصنة ضد الكراهية والاعتداء… إلا أن الحياة كانت كما قالت لي جارتي أم أحمد الموصلية رحمها الله “الحياة يا بنتي ما تعوف أحد بحاله إذا ما تضَوكة من سمّاقها (حموضتها) شوية”!!

نعم ، كنت أنا من ذاق “السمّاق” مراراً وتكراراً مع تقدم العمر..

أنا الطفلة التي كانت تنهار بكاءً إذا ما أخبرها أقرانها في المدرسة “شعرچ مو كلش أصفر !”

لكن الصدمة هي تلك التي أصابت (أم الربيعين) بعد أن غنّوا لها

انزلي وتدحرجي من سطوحك العالية..!

تلك المدينة التي اكتشفتُ من خلالها شقائق النعمان وأقواس السجق المحلى، المدينة التي تكوّن لوحدها تاريخاً يعادل عمر الكثير من المدائن الغنية إن اجتمعت، المكان الذي كانت هندسة بيوته لا تشبه حتى بيوت العاصمة بسبب تفردها الباهر.

كانت الموصل تلك النقطة المضيئة كالفنتازيا في خارطة العراق، وكما أن لهجة أهلها تشبه الحلويات التي كانت تأتينا منها، وكما أنها تشبه تلك اللوحات المتخيلة التي تكمن ما وراء السحب والأقمار القرمزية..

كانت الموصل تلك العظيمة المحشوة بالمآذن والكنائس والصروح التراثية، وكان أهلها يطلون علينا كل يوم جمعة ببرنامج “أم الربيعين” بأغنياتهم المبهجة التي لا تشبه مواويلنا الحزينة..

كيف تجرأت هذه الحياة على نينوى أيضاً كما طحنتنا جميعاً حين كبرنا؟!

كيف استطاعوا أن يلمسوا أحجارها المعجونة بالسحر من دون أن تبتر أذرعهم لحظتها ليطردهم الخوف من تاريخها ولا شيء غيره..!
كما أني أكاد أسمع نحيبها اللحظة وهي تشكو إلينا

” قالولي شعرك مو كثيغ أصفر !”

ميخالف لا تبچين

تنبت الضفاير بعد ما تنقص

والشيب أصفى درجة من درجات الأشقر …!

وكما أني أغني: تحبّون الله ولا تقولون ، دخيل الله لا تقولون موصل وما ماتت عيني دلال..!
تجيب هي:

حلف أبو الغالية ما تنطي الغالية..

ومات العدو واصفرت ألوانه!

هكذا سترجعين عصيّة، هكذا يقول التاريخ الذي قرر أن يعيد نفسه في زمني أنا..!

أنا التي كنت محصّنة ضد الأذى..