عامر بدر حسون /
قبل 45 عاماً، وتحديداً في 6)-10-1973) نشرت أول مقالة لي في الصحافة وكانت في العدد 20 من جريدة طريق الشعب.
وبين تلك المقالة وهذه السطور كتبت ملايين الحروف، ولا أدري إن كنت كتبتها على الورق أم في الهواء؟
كانت المقالة بعنوان “الهارب من السياسة”! ولعل هربي تحدد سلفاً منذ ذلك العنوان! فلقد قضيت حياتي هارباً بسبب السياسة.
الأغرب من هذا أن أول قصة نجحت في قراءتها في طفولتي كانت قصة السندباد ورحلاته البرية والبحرية.. وهي قصة تهجيّت حروفها من كتاب مدرسي لأخي الكبير!
والحصيلة التي أراها أمامي بعد 45 عاماً في الكتابة بسيطة وواضحة:
القراءة الأولى والكتابة الأولى ستحدد مصيرك الى الأبد!
ولأنني قرأت أولاً رحلات السندباد وكتبت أولاً عن الهروب، فمن الطبيعي أن ينقضي أكثر من نصف عمري وأنا في المنفى.. ومن الطبيعي أن لا أشعر بأنني وصلت الى بيتي الأول حتى بعد مضي سنوات على عودتي للعراق.
***
وكان أخي (أبو أنيس) يسخر من استغراقي في القراءة بالقول إنني سانتهي مثل “أبو سعيد”!
وأبو سعيد هو “عرضحالجي” المحمودية، وكان مثقفاً أودى به شغفه بالقراءة الى الفشل في الحصول على عمل في الخمسينات ولم يجد عملاً سوى كتابة العرائض.
لكن سخرية أخي ونبوءته بمصيري تحققت بحذافيرها أيضاً!
فقد قضيت عمري وأنا أعرض حال الناس ومشكلاتهم مع حكوماتهم ومع أنفسهم ومع قيودهم المقدسة!
لا أدري إن كان أخي أبو أنيس فخوراً بمصيري.. لكنني فخور وسعيد باختياري.
في الواقع لاشيء عندي افتخر به اليوم سوى ما كتبت!
***
ولا يفوتني، بهذه “المناسبة”، أن أتذكر معلمتي الاولى: أمي (ونحن صنيعة علاقتنا بأمهاتنا بشكل كبير)، فقد حببت اليّ الكلمات دون أن تشعر.
كنت اتوسّط تسعة إخوة وأخوات.. أي أنني لم أكن مرئياً في العائلة الكبيرة المشغولة بمشكلات من هو أكبر أو أصغر مني واحتياجاتهم.. وكنتُ إن احتجت للاهتمام تظاهرت بالمرض حتى أحصل على لمسة من أمي وانتباهة أطول من التي تعطيها لبقية أفراد العائلة الكبيرة. (وصارحتها عندما كبرت بأنني كنت أتمارض فقالت لي إنها كانت تعلم)!
وتوقفت عن التظاهر بالمرض عندما عدت مرة الى البيت وكنت طفلاً ، وحكيت لها عن وضع مأساوي لطفل فقير صادفته في الدربونة فتأثرت به.
وقد فاجأني إصغاء أمي ونزول دموعها وهي تسمع الحكاية!
واكتشفت السر!
وكنت كل يومين او ثلاثة أعود لأمي بقصة مأساوية أقول إنني شهدتها او كنت طرفاً فيها مع فارق حاسم سيؤثر على حياتي فيما بعد:
لقد كانت تلك القصص المأساوية من تأليفي!
وكأنها كانت تعرف أنني مؤلف تلك المآسي الكبرى! فقد قالت لي مرة وأنا أهم برواية إحدى المآسي التي ألفتها:
– مو هسّه.. مابيّ حيل أبكي!
أعتقد أن إصغاء أمي لقصصي الملفقة جعلني ادرك قدرة الكلمات على التاثير في الآخرين.. فمن خلال سردي للقصص لها كنت أتابع ملامحها وأعرف أي الكلمات أكثر تأثيراً بها وعند أي حدث تنطلق دموعها!
وأختم بالعودة الى التحذير الذي في العنوان وفحواه: إحذر من قراءتك الأولى فقد ينالك منها ما نالني وتكرّس ما تبقى من حياتك لتجسيد ما قرأت أولاً.
هل فات أوان التحذير؟