عامر بدر حسون/
وفي يوم من أوائل السبعينات، صدر قرار من أعلى المستويات في القيادة، يقضي بإتلاف أشرطة الأغاني “التافهة والسخيفة” وأيضاً الأغنيات التي “تضعف همم الجماهير” من مكتبة الإذاعة والتلفزيون.
لم تصدر الأوامر بمنع إذاعتها أو بثها، بل بمسحها وإتلاف أشرطتها نهائياً.
وخرجت فرق الإعدام تطارد أغنيات عزلاء لا يفهم القاتل كلمة منها أو عذاب ونشوة كتابتها وتلحينها، ناهيك عن غنائها!
وهكذا تم فعلاً إعدام مئات الأغاني.. وكانت الصحف تنشر أسماء الأغنيات والمغنين الذين تم إعدامهم، تماماً كما كانت تنشر أسماء “الخونة” الذين أعدموا في الساحات!
كان من ضمن الأغاني “التافهة والسخيفة” أغنية فيروز “طيري يا طيارة طيري/ ياورق وخيطان”!
في تلك الفترة تم إعلاء شأن الأغنيات البدوية والغجرية وأغنيات هجينة من الريف والمدينة.
ولا غرابة في هذا.. فالفئة الصاعدة كانت تفرض ذوقها على كل شيء:
في السياسة والطبخ والأزياء والأغنيات والحياة الاجتماعية!
كنا ندخل مرحلة قاسية أعلنت فيها قيم المدينة هزيمتها بأقسى وأشرس الطرق.
ولم يستطع أحد أن يبدي راياً “فنياً” في تلك المجزرة الحضارية.. فكل شيء يفسر بالسياسة.
الصح والخطأ في السياسة تحدده “القيادة” التي تعرف مصلحة الأمة.
ومع الأغنيات أعدمت أنماط من الأزياء وأنماط من العيش، وصار بإمكان أي شرطي جلف أن يوقف زوجاً وزوجته أو بنتاً وأبيها أمام الجميع ويطلب الأوراق التي تثبت العلاقة بينهما، وإلا سيقا إلى السجن بمنتهى المهانة، حتى تسريحات الشعر الرجالية حوربت بالمقص وإذلال صاحبها بتشويه شعره وحلاقته للنصف أمام الناس.
يا الله! أي حياة ذليلة عشناها؟
وأية مهانة صرنا فيها حينما يسمي عدد غير قليل من الناس تلك الأيام “أيام الخير”؟!
ان التدجين والتمرين على خلق القطيع الذي يسير بإشارة من “الراعي” عملية دقيقة ومخيفة، وتشتغل على أشياء صغيرة جداً حتى يُفرغ المرء من ملامح إنسانيته وتجفف مشاعره، وفرديته، ولا يعود يشعر بالأمان إلا مع القطيع! حتى إنه يصير قاسياً على أقرب الناس إليه لو تجرأ وخرج على القطيع!
صار القطيع كلما صدر قرار لا علاقة له بالعقل أو الكرامة البشرية يجد سبباً لتبريره والدفاع عنه.. وإن عجز عن إيجاد السبب ردد:
– لابد أن القيادة لديها أسباب وجيهة ولكن نحن لا نعرفها!
وبكلمات من الأغنية التي تم الإعلان عن إعدامها لكنها عاشت وماتت القيادة.. نختم:
“لو فينا نهرب ونطير مع ها الورق الطاير!
تا نكبر بعد بكير.. شو صاير شو صاير؟
ويا زهر الرمان ميل بها البستان