عبد المنعم الأعسم
الشاعر العباسي الأمير عبد الله بن المعتز، اشتهر بصاحب القلم والبديع، قتل بعد يوم واحد من توليه الخلافة بعد خلع المقتدر عام 908 م، واختفى مؤلفه المثير “كتاب البديع”، ليعثر عليه بعد قرون وقرون كمخطوطة في مكتبة “الإسكوريال”. وفي ذلك دلالة الخسارة مرتين، مرة في رحيل أديب مرهف كان له أن يضع السلطة في المقام الثاني بعد الأدب في قوام مشغوليات الخلافة، ومرة أخرى في تعطيل رحلة التأمل داخل بديع الكلام، بعد أن جمع خمسة فصول من العيّنات لخمس صور مما ابتدعه، وكان سيدخل شائك التفكير في المسافة بين الصورة من حيث هي ملامح بادية للعيان عبر التخيل، وبين الجمال من حيث هو استطراد في إضفاء الحُسن على الصورة.
ومما له مغزى أن ابن المعتز نفسه كان يسجل، وهو يتابع كشوفاته في مجال البديع، حق اللاحقين في الاعتراض، لأن “الألفاظ والتعابير لا تزال متقلقلة”، كما يقول. تعبّر عناصر البديع لدى ابن المعتز عن نفسها، أولاً في “الاستعارة” ككتابة ومجاز مرسل. وثانياً في “الجناس”، إشارة لمعنيين في كلمة واحدة، أو تركيبة واحدة من الألفاظ. وثالثاً في “الطباق”، أي التوافق في ذات الإيقاع اللفظي. ورابعاً في “التصدير”، الذي هو رد العجز على الصدر. أما العنصر الخامس، فقد سماه ابن المعتز “المذهب الكلامي”، وذهب، في تواضع علمي عميق، إلى القول إنه إنما استند فيه إلى الجاحظ الذي سبقه إليه بأكثر من خمسة عقود. لكنه يعود إلى الاستدراك اللبق مع انه يعنى بـ “البديع” غير ما يعنيه سلفه، فهو عنده “الجدة في الأسلوب”، فيما لدى الجاحظ كل ما هو غريب وطريف وخارج ما هو معتاد.
على أن بديع ابن المعتز قد فتح الباب، ليس أمام التفكير المتوثب في شأن المفردة العربية وحسن الصنعة وأسرار الجمال في تداعيات اللغة فقط، بل وأمام استطراد الجزالة وعنف المغامرات اللغوية، وفتح مستويات جديدة في التعبير والتأليف. فيما اعتبرت كشوفاته مرجعية لـ “مقامات” الفضل بن أحمد الهمذاني بعد قرن من الزمان، من حيث التخيل والصنعة والأصالة. فالمقامات، كقصص زاخرة بتداعيات الخيال ودواعي الخروج على المألوف، لم يكن لها أن تصبح لوناً مثيراً للجدل والاهتمام، لولا تلك المغامرة التي اجترحها الهمذاني خلال رهافة الصنعة في بناء مفردته، ما أضفى على لغة التعبير ترفاً موحياً، وعلى اللفظ رونقاً مموهاً، وعلى الفكر مسحة من الغرابة، مما لم ترد على بال.
وإذ أشار كل من الحريري، مبتدع “المقامات” اللاحقة، والقلقشندي أحمد بن علي، كاتب “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”، إلى أن الهمذاني هو “مخترع” المقامات، فإن أحداً لا يختلف بشأن الصلة بين بديع ابن المعتز وبدائع الهمذاني من حيث العناية بتلغيم المفردة اللغوية وشحنها بالدلالات والمعاني.
معروف أن بين ابن المعتز والهمذاني مائة عام.. عاش الأول اثنتين وخمسين سنة ومات في العراق خنقاً، وعاش الثاني تسعاً وثلاثين سنة ومات في هراة في بلاد فارس قتلاً.. أما الحريري، القاسم بن علي، فقد تلا الهمذاني وعاش ثمان وستين سنة، زاخراً بالأهوال التي آذنت بدخول مرحلة الانحطاط، فكمن “البديع” في باطن الأرض والذاكرة كل هذه السنين. ابن المعتز سبق غيره في تلمس البدايات، نافياً بذلك أن القرنين الثالث والرابع الهجريين هما حاضنة البديع ومناخه وحقله، فيما أكد أن عناصر الأناقة في اللغة إنما موجودة في القرآن، وفي الكثير من منثور لغة أهل البادية وشعر الجاهليين وأدبهم الشفاهي.