ياسين النصير/
في عمق المثيلوجيا الرافدينية، تبرز مثيولوجيا الأهوار، وتنقل لنا احدى الحكايات السومرية كيف أن سمكة الأهوار وطيرها حكى لنا قصة خلق العالم، وكيف تجاورت مملكة السماء مع مملكة الماء، حيث رغبت السمكة أن تكون مملكة للعالم كله باعتبار الماء أول التكوينات. فتصدى لها الطير ليقول: وحده من يملك العالم لأنه يجوب آفاقه وأصقاعه ويتعرف على مخلوقاته، وما مملكة الماء إلا جزء منه، وفي حوار بين السمكة التي تتقافز في ماء الهور والطير الذي يقف على قصباء الهور، كان العالم مجرد كلمات على ألسنة احياء أهوارنا، سمكة تمتلك حرية الماء والتجوال بين مسارب الأهوار و»كيهانها» وممراتها وبرديّها وقصبائها، وطائر يجوب سماء الجنوب المائي مرددا أغاني السماء، معلنا أنه وحده يملك الحق في عالم الأهوار. وبمثل ما حكى كلكامش قصة الخلود والسفر إلى اقاصي الأرض، يحكي الطائر والسمكة قصة تكوين العالم وحق الأحياء في تقاسم المملكة. وفي حوار مثير بين الطائر والسمكة يتفقان على تقاسم العالم: عالم الهواء وعالم الماء، ويصبح كل واحد منهما ملكا على ما يحيا فيه، وهكذا بقيت المملكة السومرية المائية منقسمة بين سمكة تبيض وتولد في الماء، قافزة بين آونة وأخرى لتشم هواء العالم، وطير يتنفس هواء العالم لكنه يحتاج لأن يغطس مرات عديدة في اليوم كي يأكل، وفي حمأة وجود الحياة، تنمو حكايات الخضرة والزرع والسفر والأغاني، وثمة صوت بشري لم ينقطع منذ خمسة آلاف سنة، ينقل إلينا حكايات سومرية عائمة في الماء ومحلقة في الهواء عن العلاقة بين كائنات الماء وكائنات السماء.
في الثقافة العراقية شكلت الأهوار محطة منتجة لحكايات أخرى، فأحد أبناء سومر المعاصرين يكتب قصصا عن الأهوار، مضمنا إياها تقاليد وأعراف وجغرافيا الروح للقصب والبردي والمشاحيف والجاموس وأطباق القيمر وحيوات النسوة الجميلات، ذلك هو القاص المتميز وارد بدر السالم، وثمة قاص كتب رواية لأول مرة في الثقافة الاقتصادية عن اقطاع الماء، بعد أن تشربت لغتنا السياسية باقطاع الأرض، ذلك هو القاص المرحوم محمد شاكر السبع، ويكتب القاص المرحوم فهد الأسدي قصصا عن مثيولوجيا الأهوار، عن حلب بن غريبة البطل الاسطوري الشعبي، عن كوت حفيظ، المكان الأسطوري العائم في الذاكرة المائية. ناهيك عمّا كتبه حسب الشيخ جعفر شعرا عن القصباء والنساء وتموز والمنشور الحزبي،عن ذاكرة المناضلين الذين وجدوا في الأهوار ملاذا للثورة.
اليوم يتحدث العالم عن أهوارنا، التي أراد النظام السابق تدميرها ومحوها، لتدرج ضمن التراث الإنساني، هل أرفق المعنيون مع الملفات ثقافة وحكايات الأهوار؟ تلك التي ابدعها السومريون وكتبت باللغة الأكدية وتدرّس الآن في جامعات ألمانيا وبلجيكا، وكان لنا نحن المهاجرين حظ أن نستمع لحكايات الأهوار في ندوة أقمتها شخصيا في هولندا، لاستاذة بلجيكية متخصصة باللغة الأكدية. فالأهوار لسنا وحدنا من يملكها، العالم كله يدعي ملكيته لها.