الإنسان سين

جمعة اللامي/

أَرى الدَّهْرَ يَوْمين: يَوْماً مُطَرَّداً

شَريداً، ويَوْماَ في الملوكِ مُتَوَّجا

(إبن الحرّ الجعفي)

لُبُّ الموضوع هو تطابق الشاعر، بكونه إنساناً، مع ضميره ورسالته. والشاهد في ذلك الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك، وأحد الشعراء الصعاليك من طراز “عبدالله بن الحر الجعفي”، الذي أَبقيتُ اسمه من دون إعلان، لأني أريد به كل إنسان، امرأة أو رجلاً، وليس كل شاعر وشاعرة فقط. و“الجعفي”، هذا، شاعر كوفي، توفي في أواخر القرن الميلادي السابع، مقتولاً، بعد حياة حافلة، متقلّبة، مضطربة، فهو مرة مع عبدالله بن الزبير، وأخرى مع الخليفة الأموي، وتارة ضد الإمام الحسين بن علي، ورابعة يرثي ابن بنت رسول الله.

وهكذا، فكأنَّ اضطراب أحوال الأمة، يُلخَّصُ في حياته ومفرداتها، ولا يشبهه في حاله مع رموز عصره، إلا حالة ذلك “الشاعر” مع “المنصور” العباسي الذي سنرمز له ب “سين”. وكان سين قد تعرّض بالهجاء للخليفة الأموي هشام بن عبدالملك، الذي أضمر له ضغينة، وكان يتربّص به الدوائر، لكن سين كان حذراً، فلم يُمَكِّن الخليفة منهُ. وفي يوم ضاقت الدوائر على الشاعر، وطلبه العسسُ ورجال البريد وخاصّة الخليفة، فهام في الوهاد، وسكن الفلاة، يكمن نهاراً ويمشي ليلاً، حتى صادف خيمة وسط قفر، فدخلها ليجد فيها رجلاً معتزلاً، يتدفأ بنار خابية.

ولم تمضِ إلاّ ساعة حتى تصادق الرجلان، وطابت نفس هشام بن عبدالملك لـ “سين”، فقال له: “أتعرفني يا هذا؟”. فرد “الشاعر”: “لا أعرفك، مثلما أعرف شرَّ الخلق هشام”. فقال هشام: “أنا هشام بن عبدالملك”. وتصوّر “سين” أن منيته قد حلَّت، وأن هشاماً سوف يقتله، فقال له: “افعل ما تراه”. فقال هشام: “كيف أقتلك، وأنت استجرت بي في هذا الليل المخيف؟”.

ونظم “سين” قصائد جميلة في هشام بن عبدالملك، الذي كان “المنصور” العباسي يطارده في الصحراء والبوادي، على عادة العباسيين في قطع دابر الأمويين، حتى أنهم نبشوا قبور موتاهم. وصادف أن “المنصور” التقى “الشاعر” ذاك، بين حرسه وجنده، فأكرمه وطلب منه أن يُسمعه أجمل قريضه، فما كان من “سين” إلا أن يقرأ مديحه في هشام بن عبدالملك.
هنا انقلب “المنصور” إلى حيوان كاسر، وقال لـ “الشاعر”: “أفي مجلسي وتمدح عدوي؟”. فرد “الشاعر”: “هشام أنقذ حياتي، والمنصور أكرمني، وأنا بين هذا وذاك لا أفاضل”.
يقولون: عندما سمع “المنصور” مقالة “سين”، أطرق مليّاً، ثم قال لـ “الشاعر”: “واللّه إن مثلكَ ليؤاخى”.