حسن العاني /
من المعلوم أن لكل أسرة عراقية أسلوبها الخاص في تربية أبنائها، على وفق ثقافتها ووضعها الاقتصادي وبيئتها. وأعترفُ بدءاً أن منهجي التربوي مع أبنائي كان قائماً على قدر كبير من العنف والتخويف، وهذا بالتأكيد أمرٌ سيئ خاصة لرجل مثلي أمضى حياته الوظيفية في ميدان التربية والتعليم، ولكن ما باليد حيلة حيث نشأتُ وترعرعت على هذه الأساليب. ففي طفولتي المبكرة كان والداي رحمهما الله –وبالذات والدتي- يواجهان شقاوتي عبر تخويفي بمخلوقة عراقية غريبة اسمها (السعلوّة)، ومع أن ذاكرتي الطفولية لا تحتفظ بأوصاف محددة لها، ولكن كثرة الحكايات المفبركة التي يرويها الكبار عنها سمّمت أفكاري وجعلتني أرتجف ذعراً بمجرد تهديدي بها إذا لم أخلد الى النوم مثلاً، ولا غرابة أن تزورني السعلوة اللعينة في أحلامي بأشكال وصور شتى بناء على ما يرسمه العقل الباطن لها من هيأة مخيفة، أما المرة الوحيدة التي رأيت فيها تلك المخلوقة على حقيقتها، وأثارت دهشتي حقاً، فكانت وأنا ابن عشرين سنة حين وصفتْ جارتنا أم إبراهيم زوجة ابنها بالسعلوة، مع أن تلك الزوجة كانت آية من آيات الجمال!!
في مطلع خمسينات القرن الماضي، حين بلغتُ السادسة من العمر وبدأت رحلتي الأولى مع المدرسة الابتدائية، قامت أسرتي بتطوير “جهاز التخويف” وتحويله من كائن أنثوي (سعلوة) إلى كائن ذكوري يدعى “الطنطل”، وبحكم صفاته الذكورية، كان لا يظهر إلا ليلاً ومع حلول الظلام، مثلما كان على أتم الاستعداد لمداهمتي في اللحظة التي أتهرب فيها من إنجاز واجباتي المدرسية، أو محاولة الهروب من المنزل بعد الغروب للالتحاق بصغار محلة “النوّاب” في مدينة الكاظمية!
إذن كانت الطناطل والسعلوات أو السعالي (ربما هذا هو الجمع الصحيح للسعلوة)، هي أهم وسائل التربية المتاحة التي تفتقت عنها أذهان أمهاتنا الطيبات قبل أكثر من خمسين سنة، وهي الوسائل الملائمة يومها لطبيعة الظروف ومستوى التعليم، فلماذا أرثُ عنهم هذا الميراث الثقيل المتعب وقد تغير كل شيء، الظروف والأفكار وأحوال الدنيا؟!
من دون حرج ولا حياء، أعترف للمرة الثانية، أنه خطأ فادح أتحمل مسؤوليته وحدي عندما لجأت إلى تخويف ابني البكر عمار بشخصية قاتلة غريبة السلوك كنيتها (أبو طبر)، ظهرت في السبعينات وأشاعت الذعر بين العراقيين، وكان ابني في الرابعة من العمر أو دون ذلك. وفي السنوات اللاحقة عمدت إلى تخويف الأطفال من أبنائي بالحرب وصدام والصواريخ.. بل كنتُ على الدوام أتفنن بابتكار وسائل ترهيب شملت حتى الكبار، فهل كنتُ في ذلك كله أسير ذلك التراث (العائلي) الذي رسم أفكاري وقناعاتي وشخصيتي؟!
الغريب في عموم هذا المشهد، أن أولادي وبناتي بعد أن تزوجوا وأنجبوا، أصبحوا أفضل مني في أساليبهم التربوية، حيث تخلوا بصورة نهائية عن منهج التخويف، وقد لمستُ ذلك بنفسي، فمنذ سقوط الدكتاتور صار الأطفال المسلحون الذين يسببون الخوف للكبار!!