سعاد الجزائري /
عندما كنت في العشرينات من عمري، ويومها كنت بالعراق، اعتقدت أنَّ عمر الاربعينات هو الشيخوخة بكل تجلياتها وانحناءاتها، لأنَّ النساء بهذا العمر يخجلن من ارتداء الألوان التي تبثّ أشراقتها على الوجه، فيتلفعن بالأسود والبني والرمادي، ويعدّن باقي الألوان فاحشة وتكسر هيبة عمرهن. وهنا يبدأ تدريجيا انطفاء الحياة في عيونهن فيختفي الحب والرومانسية ويبدأ الشحوب بالزحف على العيون ثم الروح، لأنَّ كلّ مَنْ حولهن صنّف هذا العمر كبوابة للشيخوخة، وأن عمرها سيمنح لخدمة أولادها وعائلتها فقط، ولا تتحقق كينونتها ألا عبر هذا الدور فقط.
لكن عندما بلغت الثلاثينات، كنت في أوروبا، فرأيت أن أشراقة الألوان وبريقها يتألق على أجساد العجائز، بل لا تجد بينهن مَنْ ترتدي الالوان الغامقة، فيشع عليهن الأحمر المُطعَّم بالأبيض وكأنَّهن صحن حلوى مع الفراولة، او يلبسن الازرق الملكي المُطعَّم بلون السماء وكأنهن في موكب مهيب، أو يتوشحن بالزهري مع حذاء بكعب صغير يتناسب مع مقدرة أجسادهن التي أرهقتها السنين وأبقت على أرواحهن المزدهرة..
منظر اعتيادي أن تشاهد هذه الألوان في الشوارع والمقاهي والأسواق ضمن أناقة مفرطة متكئة على عكازة سنوات العمر، وغير مبالية بوطئة كثرة عدد سنواته..
أما عندما بلغت الاربعين وتجاوزتها تخلّيت عن اللون الأسود الذي عشقته طوال فترة مراهقتي وشبابي وما زلت، لكنّي بدأت كالاوروبيات أبحث عن الألوان المشعَّة التي تؤثر بالضرورة في إشراقة الروح.
قفزت إلى الخمسين بسرعة خارقة، وبما أني من بيئة تتوارث الأسود والقهر والتقاليد الكونكريتية، لذلك اعتقدت أنَّ بلوغي الستين سيعيدني إلى قاتم الألوان، لأنَّ الحياة ستنحدر نحو سفحها الأخير، وستخبو أضواء المشاعر تدريجيا، وسيصبح الحب مثل تحفة انتيكية، تؤطر ضمن برواز يعلّق على حيطان النسيان، وسأضع مشاعر الرومانسية على رفوفها المهملة، ليعلوها التراب وتختفي ألوانها الساخنة تدريجيا، لا سيما عندما يصاب الجسد بالوهن فلا يتمكّن من أزاحة الغبار عنها، لكنّي بلغت الستين وتجاوزت حتى منتصفه، فاكتشفت أنَّ الحياة تتجدد يوميا، وتلبس في كل مرحلة عمرية زيّها الجديد، وأنَّ الحب لم ولن يتوقف، لأنَّه كالنبات المتسلّق يمتد بأوراقه في كل اتجاه ويتسلل خفية عبر النوافذ المفتوحة لاستقباله. الحب ينمو معنا ومثلنا، يحبو على الأرض أولا، ثم يراهق وينضج ويبلغ سن النضج ولا يصيبه اليأس، وقد يتحول إلى صيغ غير تقليدية، كعشقنا لمكان مفقود، او لحبيب لم نجده بعد، وربما نضع كل ما نمتلكه من عاطفة وحب في حضن حفيد، او في حلم لقصة قد نعيشها قبل أن نتجاوز السبعين وما بعدها..
الحياة تتجدد يوميا بشباب لا يحدّده عدد سنوات العمر بل بما يغمر الروح والقلب من حب وعطاء لا ينضب أبداً…
الحب لا يخضع لأرقام وعدد سنوات العمر بل بما تمليه علينا عاطفتنا وولعنا بكل ما يحيطنا من بشر، طبيعة، وجمال خُلق لنا سواء في علاقة حب، او في نص ساحر، او لوحة أخاذة او في ابتسامة طفل وربما حركة ود من إنسان مر بالقرب منا، او بجملة غزل أرسلت خفية تحت ستر ظلمة الليل.
المهم هنا أن نشعر بهذا الحب ولا علاقة لسنوات العمر بهذا الإحساس الجميل، لأنَّ الحب لا يشيخ أبداً….