سعاد الجزائري /
تولد الكائنات والنباتات وأغلب الأشياء صغيرة ثم تنمو وتكبر وتشيخ، حتى الجماد في بدايته يكون لامعاً براقاً، لكنه يشيخ ويفقد بريقه. المشاعر تبدأ بهدوء وتروٍ، ثم تتعاظم تدريجياً فتعصف بكينونتنا، ولا يهم إن كانت مشاعر حب أو كره أو غضب، فأكثر ما حولنا يبدأ صغيراً ثم يكبر، إلا الحزن الذي يعاكس الإنسان وباقي الكائنات والمشاعر عامة، لأنه يولد ضخماً كعملاق مهول ويحتل كل فراغ يحيطك، ويتسرب بين ذرات الهواء لتتنفسه في كل لحظة، تتعثر به في كل خطوة، وترتديه كثوب أسود، أو تكتبه في قصة أو قصيدة أو لحن ناي يعزف أنين البكاء.
الحزن مثل الظل يلاحقنا حتى في الظلام. قالوا إن الحزن يولد كبيراً ثم يصغر حتى يختفي، لكننا، نحن العراقيين، كذّبنا هذا القول وأثبتنا واقعياً عكس ذلك، فنحن من عرف الحزن على حقيقته، كونه يولد معنا، لأننا تغذينا به في أرحام أمهاتنا اللواتي لا يجدن إلا أغاني الحزن وكلمات مناجاة الغائب، ثم رضعناه مع حليبهن. نحن أعطينا الحزن قيمته التي يستحقها، فتسلل إلى أغانينا وإلى أجمل قصائدنا الشعرية، وحازت قصص حزننا ورواياته على الجوائز الأولى. وعرف القهر-الأب الشرعي للحزن- أننا نحترم ونجلّ ابنه (الحزن)، لذلك أخذ حقه منا فحصد كثيراً من سعادتنا وخطف أجمل أحبابنا دون اعتبار للعمر أو الجنس، بل قطف زهرة شبابنا قبل أن تورق، فالموت يؤمن بحقوق الإنسان، ولا يفرق بين المرأة والرجل، بين طفل رضيع وشيخ مسن، أخذ الكثير وترك لنا ابنهُ الحزن، يصول ويجول بيننا.
ولشدة اعتزازنا بالحزن رفعنا شعاراً: (كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء)، لأن هذه الكلمات جسدت ما عشناه ونعيشه من قهر وضيم. ففي هذا الشهر نبكي حسيننا ونبكي عاشوراء الذي يمتد طوال العام لأن أرضنا هي كربلاء، كما قال الشِّعار. الحزن العراقي عميق وموجع، وعُرفنا بين الآخرين كشعب حزين، ففي استطلاع أجرته مؤسسة غالوب الأميركية، تصدرنا القائمة كأكثر بلد يفتقد سكانه الأمان وعدم الشعور بالرضا عن حياتهم، وهذا يجعل الحزن ملازماً لنا، هذا البحث شمل 145 دولة فكان العراق من الدول العشر التي تصدرت القائمة لأننا منذ قرون فقدنا الشعور بالأمان، وخاض بلدنا أنواع الحروب التي راح ضحيتها الملايين، فثكلت الأمهات وترملت النساء وانتشر الأيتام في شوارعنا، بل زرعت أرضنا بمقابر جماعية.
عرفنا الجوع الذي جعل من متوسطي الدخل يبيعون أبواب بيوتهم وشبابيكها لتوفير لقمة العيش، فمثل هذا الشعب أين يجد فرحه؟ لهذا تنهال دموعنا عند الوداع وعند استقبال الغائب، نبكي في العرس وفي المأتم، نبكي عندما نفرح، ولا أدري من كتب كلمات الأغنية التي تقول: “خطّار عدنه الفرح نعلك صواني شموع”.. فالفرح يزورنا نادراً مثل الخطّار.