حسن العاني /
عجبٌ ما بعده عجب هو أمر الدنيا، كيف يتبدل فيها كل شيء، وكأنه سُنّة كونية من سنن الحياة، فبخلاف ما جرى عليه العرف في العصر الحديث من سباق محموم للحصول على وظيفة قاضٍ، أو رئيس محكمة مثلاً، فقد كان هذا المنصب في العصور الإسلامية الأولى مدعاة للخوف، ويهرب منه أكبر العلماء والفقهاء، خشية الوقوع في خطأ يغضب الله والناس ويعذب ضمائرهم، ولهذا لم يضع المسلمون شروطاً أصعب من شروطِ تولي القضاء، حتى إنهم أبطلوا حكم القاضي إذا كان جائعاً أو متخماً أو سعيداً أو حزيناً.. الخ
رواية تراثية من مئات مثلها، تحدثنا عن شخصية القاضي محمد الذهبي، وكنيته (أبو العلياء)، فقد أجمع كتّاب السيرة على أنه كان سيد عصره علماً في الكتاب الكريم، وعلى علم لا يُضاهى بالأحاديث النبوية الشريفة، وبعلوم الفقه والشريعة واللغة العربية، ولكن شهرته الأعم كانت في الإفتاء، حيث لا تُشْكِل قضيةٌ إلا وحلُّها عند الذهبي.
وتمضي الرواية إلى القول بأن أحد خلفاء العصر العباسي في القرن الثالث الهجري، كلّف الذهبي بتولي القضاء فرفض التكليف، ولهذا تم استدعاؤه الى دار الخلافة، فأبى الذهاب وقال [ليست لي حاجة عنده، فإن كانت به حاجة لي فليأتني]، وقصده الخليفة مضطراً وهو يكتم غضباً، ثم خاطبه بلهجة توحي بالعتب الذي لا يخلو من احتجاج [ما أبطأك يا أبا العلياء عن تلبية طلبنا في تولي المنصب، أرأيت فينا اعوجاجاً؟!] ردّ عليه بأدبٍ عالٍ [عافاك الله وأيدك بتوفيقه، لا هذا ولا ذاك… بل هي بغداد أم العلماء وموطن الفقهاء وبغية الشعراء، وفيهم مَنْ هم بالقضاء أوفق وأقدر، وبالمنصب أولى وأجدر]، هدأت نفس الخليفة ثم قال له [والله ما اخترتك عن هوىً، إنما هي مشورة أهل العلم والفقه، فما رأيت أحداً ذهب برأيه الى غيرك، فهل ترى من الصواب أن أخرج على ما اتفقت عليه الأمة؟!]، أجابه الذهبي.. [حاشاك يا مولاي، بل الرأي ما رأت الأمة، فإن كان لا مفر، ولا حيلة للمضطر، فعندي شروط للقبول، من دون الأخذ بها ملازمة بيتي] سأله الخليفة وقد ركبه الغضب [هل توجستَ فينا يداً مغلولة الى العنق، أم ذهب الظن بقاضينا أن عطاء الخليفة شحيح، أم رأيت تمسكنا بك فراودتك النفس الأمّارة بالسوء إلى مزيد من العطاء] ردّ عليه أبو العلياء بهدوء [إنّ بعض الظن إثم، ما أحوج مولانا الخليفة الى الاستغفار، ومعاذ الله أن أكون كذلك]، من جديد سأله الخليفة [وما قولك فيمن يضع شروطاً ويريد فرضها بالتهديد؟!]، ردّ عليه [كيف يحكم مولاي على خصمه، والبيّنةُ ليست في علمه، والله لو استوضحت أي أمر من أمور العباد، لأدركت المراد]، قال الخليفة وقد أخذه الندم على تسرعه [أصبتَ يا رجل، ولكن ما أعجل ابن آدم، هكذا ولدنا بالفطرة، وقد سبقني غضبي قبل سماع الشروط، فَضَعْ ما شئتَ وأطلب ما أردت، وأنا راض بها، موافق عليها قبل سماعها!!] ردّ عليه الذهبي [بل تسمعها يا مولاي، فما أحل الله شرطاً من غير تراضٍ، ثم ترى.. تأخذ بها أو ترفضها]، قال الخليفة [هات ما عندك] قال القاضي [لا أريد راتباً، ولا كسوة، ولا عبداً يخدمني، ولا حماراً يقلني، وأن لا تسألني عن سبب ذلك!!]، كانت الدهشة قد بلغت أعلى مدياتها، بحيث لم يتفوه الخليفة إلا بهذه العبارة: لقد رأيتُ منك أكثر مما سمعتُ عنك!
تولى الرجل أمر القضاء عاماً كاملاً، فإذا المظالم تُردُّ، وإذا الناس تلهج بعدله. وفي العام التالي حصل أن اشتكى رجل بسيط على رجل متنفذ هو صهر الخليفة، لأنه استولى على بستانه غصباً، ودفع لها ثمناً لا يساوي ربع سعرها، فما كان من الذهبي إلا أن أعاد البستان الى مالكها، وأمر بسجنِ المغتصب سنة (في تلك الأيام كان القاضي قادراً على سجن المُعتدي ولو كان ابن الخليفة)، وسرعان ما وصل الخبرُ الى رئيس السلطة التنفيذية الذي استشاط غضباً وسأل القاضي [أما كنت تدري أن السجين صهري؟]، أجابه [نعم.. ولن يغادر سجنه إلا بعد انقضاء المدة] قال الخليفة [أية جرأة دفعتك إلى الإتيان بهذا الفعل؟!] ردّ عليه [وهل كنت سأملك هذه الجرأة لو قبلت عطاياك؟!] عندها بكى الخليفة وقال [أصبتَ يا رجل، فما شيء يفسد الذمة مثل عطايا الخلفاء في غير وجوهها.. امضِ في حدود الله ولو كانت في شأن من شؤون الخليفة!!]
ويروى ان الذهبي يوم توفي بعد عشر سنوات من توليه القضاء، خرجت بغداد عن بكرة أبيها وهي تبكي في وداع رجل –حماها وأنصفها- الى مثواه الأخير..