حسن العاني/
خمسةً كانوا أقرب الى الظاهرة – ذاكرتي لا تغادر سبعينات القرن الماضي- إن لم تعثر عليهم في “الاذاعة” فهم في “الجريدة”، وإلا فأذهب الى بيت حسن العاني وأمضِ ليلتكَ بينهم في سهرةٍ لا ألذّ منها ولا أمتع، وليس لصاحب الدار فضل في الضيافة، إلا لأنّ بيته يتوسط المسافات بين الكرخ والرصافة، ولا يمكن العثورَ على أحدهم بمفرده، وذلك أحد وجوه الظاهرة، ومن وجوهها إن لكل واحد منهم مئة صديق وصديق، ومع ذلك تشكّلتْ حلقتُهم على هذا النحو بطريقة غريبة، يجهل الجميع كيف بدأتْ ومتى؟
أما وقد كشفت عن إسم الخامس، فالأربعة على وفق الأعمار وهم باسم عبد الحميد حمودي وعيسى الياسري وعبد عون الروضان وعبد الرزاق المطلبي.. بعض هؤلاء الخمسة من زاغ بصرُه فنسيَ عياله أو كاد، وتوهم إنه وريث إبنِ أبي ربيعة، وبعضهم من أخذته موجة العبث باسم الحداثة، وبعضهم وبعضهم.. إلأ الروضان، لم تلتفت عينُه الى غير “أهله”، وحافظ على مواثيق الصرامة والجدّيةِ في حياته الخاصة والعامة، فاذا به يتحدى مناكداتنا، ويُعلّمُ نفسَه اللغة الفرنسية ويبرع فيها ويترجم عنها، وإذا به يقترب من عالم الصحافة وكأنه الابن البار لصاحبة الجلالة، لكنه حيثُ رأى غوايةُ في النفس، عاد أدراجه مسرعاً إلى عالمه الأدبي الذي بناه حجارة حجارة، وحرفاً حرفاً، وفي المقدمة منه فن “الرواية” التي تشعر بالأسى المرير لأنها ودّعتْ سيداً من أنبل ساداتها وأكثرهم إستغراقاً في هذا الهمّ الجميل..
للموتِ ملمسُ اليأس، ومشهدٌ لا تخطئه العين، وللحياة مذاقٌ وطعمٌ ونكهة، ولها تعلّقٌ بالغد والأمل والمستقبل، وقبل أربعة أيام على رحيله، كنا على عادتنا نتبادل الطمأنينة على (أخبارنا).. نقلتُ له تعاطفي الكبير مع (عبور النهر).. (آخر مقالةٍ للروضان في مجلة الشبكة-6/6/2016)، وأخبرني إنه يتهيأ لانجاز مقالة جديدة، وإنه على أبواب الأتفاق مع جريدة “الصباح” لكتابة زاوية ثابتة، وإنه.. أعني أين هي ملامح الموت في صوته وتطلعاته ويومه وغده، فكيف تتجرأ حنجرةٌ دامعةٌ وتخبرني (عبد عون.. أبو.. أبو.. أبو خلدون الى رحمة الله).. وقوي هذا الرجل في روحه وجسده وصبره وإرادته قوة الجبل، ونحن من حوله نبكي وهو متماسك في وداع (زيدون)، أول احباب الله الى الآخرة، وأول مواجع الحزن السري، حيث إختارته حرب الخليج الأولى فيمن إختارت من شهداء، وأقوى من الجبل هو الروضان في وداع (إيمان) ولما يبرأ من جُرحِه بَعد، إيمان أكبر البنات، (معقودة القران) تجعل الروضان يهرع الى زملائه في مجلة (ألف باء) بحثاً عمن يتبرع بالدم لابنته الأميرة، وتضع المجلة نفسَها عن بكرة أبيها رهن الاشارة والطلب، غير إن الموت لم يمهلها حتى يوم الزفاف، لم يأبه لأحزان الجبل ولم يُقِمْ وزناً لتوسلاتنا، وهكذا حملتْ إحدى رواياته لقب (الأميرة) إيماءةً للراحلة..
حلّ عام 2003، ينهض الرجل من وجع الجراح متعافياً فيما كان يبدو لنا، ويُبدي لنا، إلا ان للروح أسرارها ونحيبها وخباياها، والموت الذي عشش على عتبة داره، يخطف هذه المرة (أحمد)، ثالث الأبناء، وللحزن هذه المرة طعم آخر، لأن الموت الذي يحمل صورة (الارهاب) مرّ المذاق، عصي على الفهم.. وكان بودي غلق ملف الموت، ولكن بأي الأعذار أعتذر إذا تجاوزتُ تلك النبيلة الطاهرة (أم خلدون)، مدينة الدفء والحنان والمودة في حياة الروضان.. أربع آهات مكبوتة في حياته، بنى الموت بها أمجاده الخائبة، وجبل الحزن السري ينزف وينزف وهو شامخ، في عينيه مذاق الحياة، وفي صوته بوح الأمل والغد، فهل صديق منكم يا أصفياء الروح مَنْ يكذَب الخبر.. مَنْ يقول إنّ جبل الحزن لم يمت.. إن عبد عون الروضان في رحلة قصيرة..