السيد ميم ورحلته العجيبة

#خليك_بالبيت

د.حسن عبد راضي /

لا يمكن التفكير في مرثية للسيد ميم، ذلك أنه لم يمت حتى الآن، أليس كذلك يا أرانجا؟ السيد ميم رجل جنوبي نما كزهرة لوتس عملاقة وسط أجمات قصب وبردي، وجلّله الغبار في مدينة أنشئت لتهب الهاربين من السياط أرضاً صلبة يقفون عليها ويدخنون مستذكرين مرابع صباهم على ضفاف الأهوار.. رجل أحب الطواف في المدن وصار عشيقاً للأنهار والشوارع والجسور والأماكن الأليفة، وهو يتقن التسلل إليها نهاراً جهاراً ويغازلها هكذا على رؤوس الأشهاد، ثم يدون طائعاً اعترافه بذلك العشق حتى وإن أودى به ذلك إلى الجنون.
والسيد ميم كان قبل ذلك جندياً في حروب عبثت بخط حياته، فأخذته شمالاً وجنوباً في جبهات قتال مستعرة، كان يرافقه فيها دوماً صديقه الحميم “الكتاب”، وكانت عيناه تبحثان وسط الدخان المنبعث من الحرائق ووسط أصوات القذائف التي تأتي مع صفير حاد ينذر بالنهاية العدمية الوشيكة، ووسط أكوام الجثث والأعضاء البشرية المتناثرة في كل مكان..
وسط كل ذلك كان السيد ميم يرصد الوقائع كرحّالة، ويدوّن على صفحة قلبه كل لحظة خوف أو أمل أو نهاية، إذ إن غولة الحرب كانت تتربص به، وتحلم بفصد شرايينه في أية فرصة كتابة أو كفاح ضد الموت.
السيد ميم أيها السادة هو ذاكرة السلم حين يكتب عن العشّاق والمواويل والخبز والسفر، وهو ذاكرة الحرب حين يكتب عن العكّاز الأخير وعن أهوالٍ شهدتها بغداد ومدن العراق في ثلاث حروب شبه كونية متعاقبة في أقل من ثلاثة عقود.
السيد ميم سادنٌ من سَدَنة ألواح سومر، وأحد حَفَظتها، روحه تمتد من هناك.. من ذلك العمق البعيد في التاريخ، من أولئك المؤلفين المجهولين الذين تركوا لنا ملحمة جلجامش وقصة الطوفان واينوما إيليش وحوار السيد والعبد وغيرها من النصوص العظيمة، ولم يكن المرء يلقاه إلا وطين الكتابة ما يزال عالقاً بأصابعه.
حسناً قيل إنه توفي! هذا الخبر عادي جداً أليس كذلك؟ فكلنا سنموت، (إنك ميتٌ وإنهم ميتون)، لكن ما ليس عادياً أن تجد من بَلَغَكَ نعيُهُ حياً مراتٍ ومراتٍ بعد ذلك التاريخ!! إنه حي في قصصه وشخصياته وكتبه التي دبّج لك في حواشيها إهداءاته الفائضة بالمحبة والإنسانية، أو أن تتذكر كل الأحاديث الطيبة التي جمعتكما في المتنبي أو في مناسبات أدبية أخرى، فكان فيها ذلك الصديق الذي لا يسعك إلا أن تحبه وتثق فيه وتتمنى لو أن جميع الناس يغترفون من طيبة قلبه تلك.
والغريب أن تجد محبيه ينعونه من أماكن بعيدة في هذا العالم، فيأتي نعيه من تونس ومصر ولبنان وبلدان أوروبا، فيا لك من طائر شقراق أسر بصوته العذب كل تلك القلوب، وحمل ابتسامته الوديعة ورحل بهدوء وصمت.

 

النسخة الألكترونية من العدد 360

“أون لآين -3-”