جمعة اللامي /
إذا أنت لم تَعْشَق ولم تدر ما الهوى فَكنْ حجراً من يابس الصخر جلمداً
( الحبّوبي )
بعد أن انتهينا من أداء فريضة العصر، وفارقنا صديقنا كابتن الطائرة المدنية المتجهة إلى المدينة المنورة، أومأ لي غريب المتروك : سِرْ بنا إلى “منزل الرمل”، وهو المُعتكف الذي ألتجئ إليه عادةً، بعد تعب مصاحبتي لماكينة الغسيل الكلوي، حيث تتعانق نهاية صحراء الربع الخالي بساحل مياه الخليج العربي.
قلتُ مُفتكراً مع نفسي، وكأنَّ المتروك يستمع إلى حديثي الصامت: “ما أجمل صديقنا الطيار وأعذبه، ها هو يستعد للوقوف بين يدي الله قبالة بيته الحرام، بعد أن يسلّم على الرسول الأكرم وآله في “طيبة”، مدينته التي قدّمت له النصرة والأمان، بإذن من الله، بعدما خذله قومه في مكة، وتآمروا عليه لقتله في فراشه بسيوف قريش وأشرافها”.
سمعتُ المتروك يُجاوبني صامتاً: “يا صاحِ، من يرتفع في الأعالي، روحاً وجسداً، مثل النّطاسيّ البارع، الذي يغور عميقاً في مجاهيل جسم الانسان، وهو يرى رؤية العين عجايب خلق الله في الإنسان”.
وصلنا إلى “منزل الرمل” بينما كان المتروك يُساررني:
ما في النهار ولا في الليل لي فرج
فما أبالي أطال الليلُ أَمْ قصرا …!
ثمَّ علا صوته جهيراً، كأنما يريد أن يسمعه كل مَنْ هبَّ ودبَّ، وقال: “وددتُ لو أنّ حزنَ الخلق كلّهم أُلقي عليّ” ، فعرفت أنه يخاف من موت الغَفلة، وأن رحلة صديقنا الطيّار هي رحلته شخصياً منذ دهور إلى حيث تلتقي القلوب.
يا غريب … !
يا رديف روحي، وصنو قلبي، الله الله في نفسك ونفسي: “للخائف عشرة مقامات: الحزن اللازم، والهمّ الغالب، والخشية المقلقة، وكثرة البكاء، والتضرع في الليل والنهار، والهرب من مواطن الراحة، وكثرة الوله، ووجل القلب، وتنغّص العيش، ومراقبة الكمد”.
تملّيتهُ جيداً، فرأيتُ فيه خشية الخائف من ميتة الغفلة، وصحوة المتجه إلى الله في الموسم الأكبر، بينما كان قلبه يناديني: “ما أحبُّ أن أموت حيث أعرف، لأني أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضحُ”.
وعند ذلك وجدتني، كأنني مع صاحبي، في ساحة التحرير.
*ـــــــ*
تنويه : غريب المتروك، أيقونة الكاتب جمعة اللامي، في روايته “الثلاثية الأُولى”.