حسن العاني /
ما وصلنا ووقع بين أيدينا من تآليف تراثية، هناك شبه اتفاق أو إجماع بين المؤرخين، قدمائهم ومحدثيهم، على أن العصر العباسي شهد أوسع حركة ثقافية مقارنة بالعصور التي سبقته والتي أعقبته، ولذلك كان من الطبيعي أن تصدر آلاف الكتب والبحوث والمؤلفات المنسوخة يدوياً في شتى فنون المعرفة الإنسانية والعلمية (طب وفلسفة ودين وفلك ولغة وموسيقى وأدب.. الخ)، وبقدر ما شهد هذا العصر ازدهاراً غير مسبوق للترجمة، فقد شهد في الوقت نفسه انتعاش نوعٍ من التآليف التي يراد بها التسلية والإمتاع أو التقرب الى الخلفاء والموسرين بغية الحصول على هباتهم وهداياهم، وهذا النوع من التآليف -كما هو متوقع- اختطت فيه الوقائع والأحداث المتفق عليها بالخيال الواسع والحكايات المفبركة.. ومن هنا ظلت هذه الكتب تحمل الشيء الكثير من الذائقة الجمالية، لكنها لا تصلح كمدونات أو وثائق تاريخية لأغراض من الاستشهاد، خاصة بعد أن اتهمها النقاد على مرّ العصور بمجانبة الرزانة والموضوعية، فيما لم تعترف المؤسسات الأكاديمية والعلمية بمصداقيتها، وأبعدتها عن طلبتها وقاعاتها الدراسية..
لعل موضوعة الكرم، وتحديداً “الكرم العربي” واحدة من أكثر الموضوعات التي تناولتها تلك الكتب والتآليف التي اختلط فيها الواقع بالخيال، والصدق بالمبالغة، مثلما اختلط فيها الجدل بالهزل، وأعتقد جازماً بأن الكثير من تلك الأحداث والصور التي قدّمها مؤلفو ذلك العصر عن الكرم والكرماء، كان يُراد به في الأساس كرم العراقيين، وعلى و جه الخصوص كرم العراقيين الأثرياء الذين كانوا يبعثرون أموالهم “من دون وجع قلب” كما يقال، ويقف في مقدمتهم الخلفاء والوزراء.. إلا أن الكتّاب والمؤلفين -على ما يبدو- أرادوا تسميم صفة الكرم، والخروج بها من إطارها العراقي الى إطارها العربي لكي تلقى مؤلفاتهم رواجاً أوسع من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن العصر العباسي اتسم بذلك الصراع الفكري العنيف بين خصوم العرب من (الشعوبيين) الذين شنوا هجمة قاسية على سكان البلاد الأصليين الذين يشكلون نسبة تصل إلى أكثر من تسعين بالمئة، حتى أنهم أنكروا أي فضل للعرب على الحياة الفكرية والثقافية والإبداعية، وبين المتعصبين للعرب أو المدافعين بموضوعية عن منجزاتهم الحضارية..
هكذا يغلب الرأي عندي، أن “أغلب” ما قيل عن الكرم إنما يقصد به كرم العراقيين، من دون أن يعني هذا التقليل من كرم العرب خارج الخارطة العراقية لسبب بسيط، هو أنهم لم (يمارسوا) الكرم ببذخ إلى حد الإسراف غير المعقول، ودليلي على ذلك أن هذه الصفة العراقية مازالت حاضرة إلى يومنا هذا وكأنها جزء لا يتجزأ من شخصيتنا، أو أنها بعض من جيناتنا الوراثية، فمن آيات كرمنا أننا ننتج البيض والطماطم والألبان والتمور والخضار لكننا نستوردُ هذه البضائع نفسها من الجيران، لأن من مفاهيم الكرم عندنا هو تقديم الغير على النفس، ومن آيات كرمنا تهيئة مائدة تكفي لثلاثين شخصاً والضيوف ثلاثة.. ولا نتركُ أكلة إلا وأعددناها من أنواع المشويات والمرق والرز والبرياني والسمك والكبب والدولمه والمقبلات، ومع ذلك نشعر بالحياء ونعتذر للضيوف كوننا لم نذبح لهم فيلاً أو بعيراً أو عجلاً أو خروفاً، ومن آيات كرمنا أن نتبرع لهذه الدولة الجارة أو تلك بالأرض أو الماء وهي من ممتلكات الوطن وكأننا نتبرع بقميص لولد يتيم أو ثوب لأرملة!!
هؤلاء نحن وهذه سجيتنا، كرماء في كل شيء إلى حد الهوس والجنون.. حتى في السياسة التي هي فن الممكن كما يقال نحن على هذا الطبع.. كرماء.. كرماء.. يخطئ المسؤول “مثلاً” متعمداً أو غير متعمد.. وتخسر خزينة الدولة (50) مليون دولار.. فماذا نعمل؟ نكرمه بتعيينه سفيراً، فإن تمادى في الخطأ عن قصد، يكون تكريمه منصباً أعلى ووظيفةً أهم، فإن…