عامر بدر حسون /
لي زيارة يتيمة قمت بها الى أميركا في العام 1996، وكلما أردت الاستشهاد بما رأيته هناك، قالت لي زوجتي: أنت تذكرني بزيارة جدتي للرضا، فقد قضت سنوات عمرها وهي تتحدث عن تلك الزيارة اليتيمة، وهي تخشى أن يكون مصير زيارتي، مع القارئ، كمصير زيارة جدتها.
وعندما أزج باسم أميركا، وهي الدولة الأقوى والأغنى في العالم، في هذه الصفحة، فإنما لأثبت أن التجربة التي أشير اليها ناجحة، وأنها شكلت جزءاً من قوة أميركا. ولابأس أن اهتف، دون مناسبة: “تسقط أميركا” تبييضاً للصفحة وتبرئة للذمة كما هو سائد في الكتابة العربية!
في زيارتي تلك كنت، وعلى الطريقة العربية، أسأل كلَّ من ألتقيه عن أصله وفصله، فيرد عليّ أنه أميركي إفريقي أو أميركي آيرلندي أو أميركي عربي وهكذا.. لكنني لم أسمع أحداً يقول لي إنه أميركي أصيل أو قح. والغريب أن هذا لم يفتّت أميركا او يهدد وحدتها الوطنية، كما هو الحال عندنا، حيث يشكل الاسم او اللقب، ناهيك عن الأصل، تهديداً للوحدة الوطنية! والذين بقيت لديهم ذاكرة يتذكرون أن صدام التكريتي (وهذا اسمه الرسمي سابقاً) أصدر قراراً بمنع ذكر اسم العشيرة في أية وثيقة، فأصبح اسمه صدام حسين، لكنه عاد وأصدر قانوناً جديداً فرض فيه ذكر اسم العشيرة في جميع الوثائق، وطالب المواطنين بتوفير “شجرة عائلة” تحدد عرقهم، ومن يومها أصبح تزوير الأعراق سياسة رسمية، وأصبح كل مواطن يمشي وشجرته في عنقه!
وكان كل هذا من أجل إثبات أن العراقي هو عراقي ونص! وهذا النصف كان ضرورياً لإشغال أية وظيفة حكومية، وبعض الوظائف كان لا يكتفي بشرط ولادة الشخص في العراق، بل يزيد عليه شرطاً آخر: أن يكون من أبوين عراقيين بالولادة، فالعرق دسّاس، كما يعتقد كل من يتحدث عن “العراقي الأصيل” و”غير الأصيل”. ويسجل لصدام حسين قَصَب السبق في هذا. أذكر حادثة رواها لي الفنان طارق هاشم، أحد ممثلي فلم “القادسية”، الذي أخرجه صلاح أبو سيف و.. عزت الدوري، وسترى! عندما أنجز الفلم وأصبح جاهزاً للعرض شاهده صدام حسين وتوقف عند دور الشخصية التي مثلتها سعاد حسني، وهي شخصية فارسية، حقيقية، تُسْلم وتتعاون مع المسلمين، لكن صدام قال إن هذا لايستقيم مع فكرة “العرق الدسّاس”، وعلى هذا استدعيَ الطاقم الفني من مصر وأعادوا كتابة التاريخ وتمثيل الفلم. وقد عهد صدام لعزت الدوري بالإشراف الفني والتاريخي على الفلم، وهو ما شاهده الجمهور، وكان أول ضربة في طبول الحرب، وأيضاً المادة التثقيفية للذين يتحدثون عن “العرق الدسّاس” ويصنفون الناس: هذا عراقي أصيل وذاك شغل تايوان.
الأميركان، تنقصهم الوطنية في هذه القضية، يعني “مو وطنيين” بلغة البعث. فالبعث يعتبر نظرية “العرق الدسّاس” نظرية مجربة لتعزيز الوحدة الوطنية! وعندما عرفت أنهم يشترطون في الرئيس الأميريكي أن يكون مولوداً في أميركا، (ورئيس المحكمة العليا كذلك) تظاهرت بالغضب على هذه العنصرية الأميركية، وعبثاً حاولوا أن يفهموني أن هذا الشرط موجود لهاتين الوظيفتين فقط، وعندما فشلوا في تهدئتي سألوني على الطريقة العراقية:
– الأخ منين جاي؟!