#خليك_بالبيت
نرمين المفتي /
“سأعود إلى بيتي، أحنُّ إلى بغداد كلّها، دجلتها، بيوتها، شوارعها، وجوه أهلها الطيبين، إن كتب الله لي أن أرى بغداد قبل نهاية حياتي”، قالت ناصرة السعدون في نهاية آخر روايتها (دوامة الرحيل) على لسان بطلتها شعاع، والرواية بحدّ ذاتها شهادة منها عما حدث في بغداد ودفع شعاع مع والدتها إلى الهجرة، تماما كما دفعها شخصياً إلى الهجرة، احتلال وعنف وحرب طائفية ومحاولة الهروب إلى الأمان والراحة، ولكن أية راحة في البعد عن بغداد التي تستمر تسكن من يعشقها وعاش تفاصيل حضارتها وتحضُّرها، فرحها وحزنها، حصاراتها ووجعها وضحكها وحزنها. ناصرة المولودة في قضاء الحي – واسط، كانت بغدادية بامتياز، بغداد التي كانت حاضرة بإصرار في رواياتها كلّها (لو دامت الأفياء ١٩٨٦، ذاكرة المدارات ١٩٨٩، أحلام مهمّشة ٢٠٠٠، أحببتك طيفاً ٢٠٠٢) و(دوامة الرحيل ٢٠١٤)، وقبل أولى رواياتها وبعدها العديد من الترجمات؛ روايات، دراسات وسياسة واقتصاد، حقول ليست بعيدة عن عملها، اقتصادية، مترجمة، باحثة وكاتبة صحفية ورئيسة تحرير، ولعل أهم ترجماتها هي (احذروا الإعلام، لميشيل كولون ١٩٩٤) الذي يكشف عن دور شبكات الإعلام الغربية عامّة والأميركية خاصّة في شنّ الحروب وعلاقاتها بمصانع إنتاج الأسلحة والكارتلات، وكتاب فرانسيز ستونر ساندرسن المهم (الحرب الباردة الثقافية، السي آي أي وعالم الأدب والفن ١٩٩٩) الذي يكشف عن الحرب الثقافية التي شنّتها الإدارات الأميركية، واحدة بعد أخرى، ضدّ الشعب الأميركي وتضليله وبدأت متزامنة مع لجنة مكارثي وانتهكت مع سقوط الاتحاد السوفياتي وطالما قلت إنّ على كل عراقي قراءة هذا الكتاب، فالإدارة التي تشنّ هكذا حرب ضد شعبها لن تتوانى عن أية حرب قذرة ضد الشعوب الأخرى. كانت ناصرة تعرف كيف تختار ما تترجمه، لتوفّر معلومات قيمة للمتلقي والأمر نفسه مع الروايات المهمّة التي ترجمتها من الفرنسية والإنكليزية إلى العربية.
حين هاجمها السرطان اللعين في شهر آب من السنة الماضية، لم أتوقع أنّه قد تمكّن منها وأنّها سترحل دون وداع. تحدّثتُ إليها بعد أولى العمليات الجراحية التي أجرتها، كان صوتها خافتاً بنبرة قوية أعرفها، كانت مؤمنة بقضاء الله، لم تجزع ولم تتساءل (لماذا أنا؟)، لم تكن خائفة، الأمر الوحيد الذي كان يحزنها ولم تفصح عنه أنَّ المرض قد يتمكّن منها دون أنْ ترى بغداد مرّة أخرى، وكنت أشعر بحزنها هذا في نبرة صوتها وهي تسألني عن بغداد. طوال محنة مرضها، كنت أتحدّث إليها، لغاية أواخر شهر آذار الماضي حين تغلّب عليها الألم وأدخلها في غيبوبة لغاية رحيلها فجر يوم ٢٤ نيسان، وكأنّها كانت تصبّر نفسها على الألم لترحل في يوم مبارك، فقد كان يوم الجمعة والأول من رمضان، وبرحيلها فقد العراق رمزاً ثقافياً وإبداعياً كبيراً وفقدت بغداد رموز تقدّمها وتطوّرها.
وإذا كنّا جميعا نختبئ داخل الخوف في زمن كورونا، كانت ناصرة السعدون جريئة كما عرفتها، وقرّرتِ التغلب على الخوف وأنْ تغادر البيت في رحلتها الأبدية.
“الكل سيموت، بعضهم يدفن في التراب وآخرون في القلب”، يقول جلال الدين الرومي، وهكذا هي ناصرة، كما أبي وأمي (سلام إلى أرواحهم في جنتهم)، دُفِنوا في القلب.