المعرفة والمتعة

 

أحمد سعداوي
كانت قائمة مصادر الكتب، التي تأتي في الصفحات الأخيرة غالباً، هي “الشبكة العنكبوتية” لأبناء جيلي من الشغوفين بالقراءة، في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
على سبيل المثال؛ كان الكتاب العظيم للدكتور الراحل علي عبّاس علوان (تطور الشعر العربي الحديث في العراق) غنياً، ليس في مادته الاستثنائية فحسب، وإنما في قائمة المصادر، من أسماء كتب ودواوين شعرية ودراسات نقدية، مثّلت لي، في وقتها، خطّة بحث استمرت لسنوات، للعثور على هذه الكتب وقراءتها.
لا أتذكّر أنني مررت بيوم لم يكن لدي فيه كتاب أبحث عنه، وظل هذا واحداً من هواجسي الأساسية فترة طويلة. في زيارتي الأولى لدمشق في صيف 2004 أنفقت أغلب وقتي في التجوال ما بين المكتبات، وشراء تلك الكتب التي كانت سابقاً في قائمة البحث عندي.
في الأيام الأخيرة من زيارتي شاهدني الروائي السوري، الصديق خليل صويلح، جالساً في مقهى الروضة، مع كيسين كبيرين مملوءين بالكتب تحت الطاولة، وفهم أن هناك بعض العناوين لم أعثر عليها. لم يعلّق بشيء، ولكنه في اليوم اللاحق جاءني بكلّ الكتب المفقودة. فاجأني بأنها من مكتبته الشخصية، لأن لديه نسخاً أخرى منها، أو أنه قرأها أكثر من مرّة ولم يعد بحاجة إليها. كان تصرّفاً نبيلاً وبالغ الكرم منه.
لم تعد هذه “الدراما” موجودة اليوم، فالكتب كثيرة ومتيسّرة، بالإضافة إلى الشبكة العنكبوتية المليئة بالكتب المقرصنة، بالإضافة إلى منصّات بيع الكتب الإلكترونية والصوتية، بالإضافة إلى وسائل توصيل الكتاب وشحنه من أي مكان داخل العراق أو العالم.
لكن الكتب نفسها لم تعد هي مصدر المعرفة والثقافة الوحيد. وصارت قوّة الصورة المرئية شريكاً أساسياً في ذلك. هناك سلاسل وثائقية بالغة الأهمية، مثل تاريخ الحرب الأهلية الأميركية أو حرب فيتنام أو تاريخ المسيحية، نسجت من خلال عشرات المصادر التاريخية، ومشاهدة هذه السلاسل تغني عن قراءة عشرات الكتب.
بإمكان أي أحد منّا، إن لم تكن لديه طاقة ولا مزاج للقراءة، أن يضيع اليوم في وثائقيات بمختلف الموضوعات والقضايا، ويستطيع بمساعدتها أن يشكّل جانباً مهماً في فهمه وإدراكه للعالم وما يجري من حوله. بالإضافة طبعاً للمواد المكتوبة، من مقالات ودراسات بمختلف اللغات، يمكن تحويلها عبر متصفّح غوغل كروم إلى اللغة العربية بنقرة واحدة.
كان الجهل في عقود سابقة وحشاً عليك أن تصارعه كلّ يوم، أما في عصرنا فلم يعد عذراً، وإنما هو الكسل أو اللامبالاة. أو تعوّد الاتكاء على ما تطلق أفواه الناس من حولنا، إن كان هراءً أو كلاماً حكيماً.
لكن المفارقة التي يعيشها كثير من أبناء الأجيال الجديدة؛ أن القراءة عندنا كانت، بالإضافة إلى المعرفة، مصدراً للترفيه في بيئة شحيحة، أما اليوم، فالشبكة العنكبوتية تقذف ما لا يحصى من مصادر الترفيه، و”تناول” هذا النوع من الترفيه لا يحتاج من الإنسان غالباً سوى كسله، أما استخلاص المتعة من المعرفة، فهو يستوجب، في معظم الحالات، شيئاً من الجهد والتركيز.