نرمين المفتي/
ذات صيف في الثمانينات، بعد شتاء شحيح المطر، أحزنني منظر نهر دجلة ومستوى مائه المنخفض وتخيلت ان الكرخ والرصافة يلتقيان والنهر اختفى.. وبدأت تحقيقاً صحفياً عما يجري.
المعروف ان نهر دجلة كان يستخدم للسفر بين المدن التي تقع عليه وكان يستخدم لنقل البضائع ايضا على مر التاريخ. و توقفت مع بداية الستينات، اكتشفت وأنا اشتغل على تحقيقي الصحفي مديرية عامة للنقل النهري حينها في وزارة النقل رغم عدم وجود اية وسائط نقل نهرية سواء بين المحافظات او في بغداد، وكان التنقل بالزوارق البخارية بين صوبي بغداد وفي مناطق محددة، جهود فردية وليست حكومية. كانت المعلومات التي حصلت عليها مفجعة، فالنهر كان يساق الى الموت تلوثاً بسبب النفايات التي كانت ترمى فيه، خاصة من المستشفيات المطلة عليه، وهي نفايات خطرة وممتلئة بالجراثيم وميكروبات الأمراض المعدية وغير المعدية ونفايات المناطق الصناعية. وفي بعض المواقع، خارج المدينة، كانت حوضيات التنظيف ترمي بفضلات البيوت الثقيلة في النهر ايضا، ناهيك عن عدم وجود عمليات الكري التي كانت سبباً في تجفيف الشاطئ و تحويل ما يعادل ١٠ سنتيمترات من مجرى النهر سنويا الى ارض يابسة. نشرت التحقيق في مجلة (الفباء) تحت عنوان (بغداد دون دجلة)، وكتبت في المقدمة: تخيل أنك تصحو يوما فلا تجد دجلة..كان السؤال صادماً، وكانت الأجوبة التي سمعتها من المغرمين بدجلة فيها الكثير من الخشية ان يكون هذا السؤال حقيقة يوما ما بسبب ما نرتكبه ضد هذا النهر الذي كان شريان الحياة وملتقى العشاق والشعراء والقمر. كان ذلك التحقيق سبباً في البدء بعمليات كري واسعة وفرض غرامات على الذين يرمون النفايات في النهر حتى إن كانت دوائر حكومية. ومع سنوات الحصار، توقفت عمليات الكري وكانت (إكرامية) صغيرة كافية في عدم دفع الغرامات واستمرار رمي النفايات في النهر.
اتذكر ذلك التحقيق كلما رأيت انخفاض مستوى المياه وظهور جزر جديدة، والكارثة ان بعض هذه الجزر بدل كريها و تنظيف مجرى النهر تُحوَّل الى الاستثمار الذي يعني احياناً توسيع الجزرة وبالتالي التأثير على مجرى النهر بإضافة أطنان من الأتربة لتتحول الجزرة الى مطعم استثماري، وقطعاً سترمي نفاياتها ايضا في النهر..
ما يجري ضد دجلة، قطعاً السدود التركية بعض السبب وليست السبب كله، اذ لا سياسة مائية في العراق، ومصير نسبة لا بأس بها من مياه دجلة تذهب الى البحر، بينما مجرى النهر يعاني الإهمال جداً.. لو كان هناك كري مستمر لما شاهدنا هذه الجزر التي تكبر يوما بعد آخر، وفي حال استمرارها سيغلق مجرى النهر. وهذه الجزر ليست في بغداد وحدها، إنما على طول مجرى دجلة، لو كانت هناك غرامات مالية عالية ضد من يسيء الى النهر، ولو …
دائما هناك متسع من الوقت للبناء والاهتمام، لنستغل هذا الوقت لأجل دجلة، لأجلنا، لأجل بغدادنا التي ستفقد ميزتها مع فقدان دجلة فتصبح الحياة فيها وفي كل المدن التي يمر بها النهر مستحيلة. هل من مستمع؟ أتمنى أن أجد جواباً او بعضه..