عواد ناصر/
لم أزل، برغم بضع زيارات لبغداد، لا أعرف الطريق إلى البيت!
الشوارع لم تعد تؤدي حيث تلك الأمكنة التي عرفتها منذ ما يقرب الأربعين عاماً من الهرب.
لكنني أعرف الاتجاهات.. كما في الكتابة: مهما كانت التفاصيل ضرورية فثمة اتجاه النص.. اتجاهه العام وجوهره اللذان تقودهما بوصلة غير مرئيّة تقبع في مكان ما: في العقل أو الضمير أو ضرورات الشغب الممتد حيث الجرح الذي لا يشفى ولا يهادن.
ظننت أن ابن بغداد العائد إليها على مضض لن يتيه، فالمدينة منكشفة وخطاه لم تزل تتناثر على أرصفتها كما الوشم في ظاهر اليد، ولكن هيهات، فأصغر سائق تاكسي في بغداد يتحدى ذكاء ابنها الغشيم الذي لم تعد طرقات مدينته كما عرفها، وغالباً ما يعلق ذلك السائق: حجي، الوضع هنا يختلف عما هناك، عندكم، في أوروبا!
برغم الاحتياطات، كلها، التي اتخذتها لأبدو عراقياً قحّاً، لا بد لسائق التاكسي أن يعلق: الأمور هنا ليست كما هناك لديكم في أوروبا!
كنت احتطت لملابسي من حيث الألوان (أحب الألوان الصريحة) وتخليت عن قبعتي ومرّنت لهجتي على الكلام بلهجة بلدي، لكن ذلك كله لم ينفع!
أضحك وأداري عري منفاي كمن يستر عورة. وأسأله: كيف عرفت أنني قادم من أوروبا؟ هل هناك خلل في لهجتي العراقية أم في ملابسي أم…؟
يجيب سائق تاكسي بغداد: أبداً، ليس هناك من خلل في لهجتك أو ملابسك أو شكلك. لكني عرفتك لأنك ربطت حزام الأمان فور جلوسك إلى جانبي.
انكشفت حيل المنفي العتيق ولا مجال للتلطي وراء سبابةٍ لا تشير إلى الاتجاه الصحيح.
من خاض غمار المنفى وأشكال الاغتراب أمثالنا، نحن العراقيين الذين أقمنا في دمشق وبيروت، وحتى في دول الغرب، أجبرتهم غريزة الغريب على فلترة لهجتهم لتبدو مفهومة لدى أشقائهم العرب، في العواصم العربية وحتى الأجنبية، على الأخص المنفي، صاحب القضية لا هاوي السياحة المبتدئ ولا ذاك العراقي المتعصب الذي لا يحتاج إلى أن يكون مفهوماً.
المنفيّ، غير المغترب وغير المهاجر، يحتاج، غريزياً إلى أن يكون مفهوماً وعليه أن يتحاشى المفردات المغرقة في محليتها فلا يجد غير اللهجة البيضاء، الوسيطة بين العاميّة والفصحى، ليبلغ مآربه وليبرر منفاه ويشرح جرحه الذي لا يشفى ولا يهادن.
هنا يكمن الفارق المهم بين لهجة الوطن ولغة المنفى.
الاحتباس الحراري في طقس الروح والجسد يبحث عن المنطقة الرخوة ليعبّر عن انفجاره المدوي، وليس سوى الكتابة، لا الصراخ، عندي، لكي أفنّد وطني وأبرّر منفاي، حتى لو لم أكن على حق.