جمعة اللامي/
“فاسعد أيها الإنسان بما تسمع وتحس وتعقل، فقد أُردت لحال نفيسة، ودُعيت إلى غاية شريفة، وهُيئت لدرجة رفيعة، وحُليت بحلية رائعة، وتُوجت بكلمة جامعة ”
(التوحيدي:”المقابسات”)
ردّ المتروك: ما أشبه الليلة بالبارحة، زماناً ورجالاً يا صديقي. فهذا معشركم، معشر الكتّاب والإعلاميين والفنانين، مثل حال صاحبي “التوحيدي” عندما كان البويهيون “الأجانب” يحتلون بغداد، ويتحكمون بالخلفاء، ويزرعون بين الناس البغضاء، حتى وصفهم “التوحيدي” بقوله: “أعجوبة الأعاجيب في اقتسام الملك وانتشار الفوضى، وذيوع الفتنة والاضطراب” على امتداد أكثر من ثلاث عشرة سنة.
قلت: هذه هي طبيعة الأشياء يا أخي، حين يتنازل الواحد منا عن دوره وتاريخه وثقافته، مرغماً ومكرهاً، أو طلباً للنجاة، أو تحت ذريعة أن ولاة أمره أدرى منه بمصالحه، بينما “بنو بويه” لهم شان واحد: “المُلك” وعلينا الطاعة والإنضباط وتقبيل الأكف والأكتاف، والقبول ببقايا الموائد، والسكوت على المظالم، وهنا الطامة الكبرى: الجلوس داخل “أقفاص” اجتماعية ونفسية وثقافية، بينما “التوحيدي” اشتغل ثلاثين سنة لينجز كتابه “المقابسات”، الذي يعد امتداحاً للعقل والإنسان.
قال المتروك: تذكر يا صاحبي أن “التوحيدي” الذي قال فيه “ياقوت الحموي” إنه “شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدب، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء”، قد أحرق كتبه في أواخر أيامه، ليس لضعف في نفسه، وإنما احتجاجاً على ذلك “القفص” الذي يُراد للأدباء والعلماء والمتكلمين أن يسكنوا فيه، تماماً كما الببغاوات، مرة بإرادة “بويهي” القرن الرابع الهجري، ومرات تحت ضغط “الأجانب” كما في أيامنا هذه.
قلت: إنك تعيد عليّ زفرة ذلك القاضي الأشهر: أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، الذي رفض “القفص” سواء كان ذهبياً أو من سعف النخيل، فقال قصيدته التي مطلعها:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما
رأوا رجلاً عن موقفِ الذلِّ أحجما
قال المتروك: ارجع إلى “مقابسات” “التوحيدي” وتفكر في نثره، وتطلع في فهمه للشعر وعلم الكلام والدين والوجود والإنسان، ستجد إنساناً لا يقبل التنازل عن “العقل”. بل سترى “العقل” في كل كتبه التي وصلت إلينا ومنها “الامتاع والمؤانسة” و “الهوامل والشوامل” و “البصائر والذخائر”، وغيرها مما لا يعرف العامة، مع الأسف.
قال المتروك: كأن “الجرجاني” كان ينطق بأسمائنا جميعاً في قوله:
ولو أنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ
ولو عَظَّمُوهُ فـي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
ولكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ، وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بِالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
قلت: أنظر يا غريب إلى “الأقفاص”، إنها تقترب منا، لكن حمداً لله، لا يزال بيننا من يدعو إلى الاستنارة والتنوير والعقل، حتى لكانه يقول لنا: هويتكم وجودكم.