حسن العاني /
يقول التاريخ: إن شعوب العالم، بدون استناء، عرفت “الأمثال” –جمع مثل- كلٌ حسب بيئته وطبيعته والوقائع التي مرّ بها، ولم يكن العرب بمعزل عن ذلك، فقد وظفوا أمثالهم كالآخرين في شتّى المناحي الاجتماعية والحياتية، مع ملاحظة أنها احتلت مساحة عريضة من تراثهم الأدبي، ربما يفوق ما توفرت عليه الأمم الأخرى، بدليل أنها وقفت على قدم المساواة مع علوم النحو والبلاغة والصرف. ولو كان في مجال النشر متسعٌ لأتينا على ذكر العشرات من البحوث والتآليف التي تناولت الأمثال سواء بالجمع أم بالشرح والدراسة.
كان الأقدمون ينظرون إليها بقدر كبير من الاعتزاز، ويولونها ما تستحق من العناية والمكانة الرفيعة، لأن الأمثال في جوهرها تمثل ذاكرة الأمة الواقعية، حكايةً وروايةً وحدثاً، وقد بلغ تشددهم مبلغاً عظيماً من التطرف لهذا الفن الأدبي، عندما أنكروا أي مثل لا ينتمي إلى العصر الجاهلي، لأن هذا العصر كان يمثل الفطرة والسلامة اللغوية ونقاوة اللسان الفصيح، والأهم من ذلك أن قيام الدول وحضارة المدن ومستجداتها وما تبعها من ولادة جيل يعتاش على خياله الخصب في فبركة قصص وحكايات لقيت رواجاً بين العامة والزعماء والوجهاء والأثرياء على حد سواء، ولم يكن عصياً على تلك الخيالات أن تصل الى الأمثال. وهكذا كان التعصب للعصر الجاهلي، من دون أن نغفل هنا، نباهة الدارسين القدامى في استثناء الأمثال القرآنية، كونها موثقة ربانياً، وقائمة على قصص واقعية.
ومعلوم أن الكتاب الكريم يضم العديد من التعابير التي جرت مجرى المثل، في حين أطلقوا اسم (المولَّدة) على كل ما صدر من أمثال في العصور اللاحقة، فلم يعتدّوا بها، إذا صحّ التعبير، أو يحملوها محمل الجد.
لم يكتفِ القدامى بهذا الحد، بل وضعوا شروطاً للمثل لا يستقيم من دونها، كأن يكون له (أصل)، أي وجود حكاية، والحكاية وقعت فعلاً وليست من نسج الخيال، وأي مثل بلا حكاية يعد (موضوعاً) أو يُنسب الى خانة (الأقوال المأثورة). ومن تلك الشروط أن يؤخذ النص الحرفي للمثل كما قيل على لسان صاحبه، لا يجوز تقديم مفردة على مفردة، أو التصرف في الصياغة، كما لا يجوز تصويبه حتى وإن وَرَدَ فيه خطأ نحوي أو لغوي، مع أن عرب الجاهلية كانوا قبل 1400 سنة أبعد ما يكون عن الخطأ، تماماً كما نحن اليوم بعد 1400 سنة بعيدون عن الخطأ في لهجتنا المحلية.. لأنها لغتنا وتلك لغتهم!!
بعد الذي مضى ومضى، ما عدنا نستعين بالأمثال الأصيلة ولا المولَّدة، ولا نعير بالاً لهذه المسميات العتيقة منذ انغمسنا بأمثالنا العامية، سواء أكانت قائمة على حكاية واقعية أم لم تكن، ورحنا نبتكر أمثالاً جديدة نستنبطها من موقف هنا وواقعة هناك، وكثير مما نبتكر ليس طويل الأمد، فثمة أمثال تتواصل الى بضعة أجيال، أما غيرها فابن جيله أو أعوامه الأولى، وهي التي تطلق عليها أمثال المرحلة، وفي الأحوال كلها فإن أمثالنا الشعبية تتغير أحياناً أو تتطور أو تأتي بجديد على وفق معطيات العصر والوعي الجماهيري والثقافة العامة.. دعونا نلاحظ كيف بدأنا بعد 2003 نقول عن أي صديقين يتطاولان على بعضهما البعض الى حد الشتائم في مشهد صاخب من مشاهد العراك، ولكنهما بعد خمس دقائق يعودان الى صفائهما ومزاحهما بأن هذه (معركة نوّاب)، حيث أصبحت هذه العبارة بمنزلة المثل الذي ما إن نسمعه حتى نعرف دلالته والمقصود منه.. كنا نقول عن أية قضية تتعرض الى العرقلة والتأخير (التفّتْ عليها حيّة)، ولكن هذا القول أخذ بالتراجع في الأشهر الأخيرة لأن مواطناً معه الشهادة الجامعية تقدم للتعيين بصفة شرطي، فأتعبوه وهو يراجع شهوراً طويلة من غير الحصول على الوظيفة، ولذلك دفعه انزعاجه وغضبه الى مقابلة المسؤول الأكبر في الدائرة وقال له[ستاد.. الله يحفظك، تره آني أريد أتعين شرطي مو وزير داخلية]، ولعل عبارة (أريد أتعين شرطي مو وزير داخلية)، واضحة القصد والدلالة، وتناسب مرحلتنا الراهنة منذ نهايات 2018 صعوداً، وقال لي من أثق بروايته، إن هذه العبارة جرت مجرى المثل، وأدت الغرض المطلوب من (التفّتْ عليها الحيّة) بصورة أجمل وأكثر واقعية، وسوف تستمر على مدى الأربع سنوات المقبلة، إلى أن يظهر قول أو مثل جديد يناسب كابينة 2022 الوزارية!!