حسن العاني/
من الصعب الرهان على الذاكرة لأنها تفتقر الى الذمّة، ومع ذلك سأجازف وأراهن عليها، وأزعم بثقة عالية أنه عام (1950) وأنا دون السادسة من العمر، يوم اصطحبني أحد أقاربي، هو على وجه التحديد ابن عمي وابن خالتي في الوقت نفسه، الى مدينة طالما سحرتني بجمالها وبساتينها ووقوعها على ضفة (الفرات) مباشرة. كان ذلك القريب يدعى (يوسف)، وكانت تلك أول زيارة لي الى مدينة (عنه)، أما ما هو أهم فيتمثل في خالتي (نايفة)، أعني أم يوسف، حيث دأبت على إحاطتي بمزيد من الرعاية والاهتمام والحب. لا أبالغ اذا زعمت أنها كانت تقدمني على أولادها، وتفضلني عليهم. ومالم أدركه في حينها، أدركته لاحقاً. فهذه الخالة النبيلة تسعى ما وسعها السعي لتعويضي عن حنان أمي التي توفيت ولي من العمر سنة واحدة!! تزامن وصولي الى المدينة مع أول يوم من أيام الشهر المبارك، وحصل ان غادرت بيت خالتي الى الشارع في محاولة للتعرف على المدينة الغريبة على معلوماتي، ومقارنتها بالعاصمة (مسقط رأسي وسكني)، وفيما عجزت عن العثور على أي شبه بين المدينتين، فوجئت بأن الجميع صائمون، وفي مقدمتهم الأطفال الذين هم من عمري، ولأنني ولد يتيم ومدلل، وخالتي تفضلني على أولادها، فقد اصدرتُ فتوى توجب الإفطار على عشيرة الصغار التي أنتمي إليها، غير أن أولئك الملاعين الصغار سخروا مني ومن (فتواي).. كانوا يلعبون ويمرحون ويركضون ويضحكون ويعبثون، وهم في كامل عافيتهم، من غير أن يشكو أحد منهم جوعاً أو عطشاً!
وحيداً كنت في الشارع أتلذذ بطعم (المصّاصة)، حين وقعت شحمة أذني بين “إبهام وسبابة” رجل متعافي الطول والبدن، وهو يسألني عن اسمي الثلاثي كما لو كان “مأمور نفوس”. وزادته قرصته قوة حين عرف بأن جدي هو (الملا عبد اللطيف)، أحد وجهاء الدين المعروفين في محلة (كحلي)، وقادني من أذني مثلما تقاد الخرفان الى الذبح، وطرق الباب، فخرجت خالتي واستمعت الى غضبه وتأنيبه الشديدين، لأن واحداً من أحفاد الملا عبد اللطيف يخرج على تعاليم الدين الحنيف وينتهك حرمة الصيام. وخلصتني المرأة الرائعة، وعيناها تغرورقان حزناً، من قبضة الرجل المتعافي الذي مرّغ دلالي وكبريائي بالوحل، وهي في أعلى حالات الارتباك، لا تدري كيف ترد، وكيف تعتذر له، سوى أن الولد اليتيم من بغداد وليس من هنا و… وغادر غاضباً، مستعيذا بالله من اللعنة التي ستحل بالدنيا، لأن الناس تجاهر بالإفطار فيما لم أتوقف عن الصراخ وتوجيه الشتائم التي استحضرتها من ذاكرة “الرحمانية” الشعبية!
هدّأتِ الخالة “نايفة” من روعي وهي تضحك من شتائمي الغريبة على مسامعها، ثم سألتني أن كنت أريد شيئاً من الفاكهة أو الحلوى، فقلن لها (آني جوعان)، في رغبة طفولية موشومة بالعناد والتحدي، لمجرد المجاهرة بالإفطار، وإغاظة الرجل في غيابه، ومازلت أستذكر ابتسامتها، فقد ادركت ما يدور في رأسي، ومع ذلك لم تقف ضد رغبتي، ولكنها اقترحت عليّ الصيام بطريقة لطيفة، وهي أن أدخل الغرفة وأغلق الباب وأقول “اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت” وآكل ما أريد، واستهوتني الفكرة، وهكذا توجهت الى الغرفة مع طبق طعام هيأته خالتي، والتزمت “بطقوس رمضان”، أغلقت الباب والشبابيك والستائر، وخيّم “الغروب” على جو الغرفة، ورددت العبارة التي حفظتها عن ظهر قلب، وتناولت طعامي، وبعد ساعة أو دون ذلك اشتهت روحي “تفاحة”، فلم استعن بأحد، طبقت تعاليم رمضان بحذافيرها، وطوال ذلك النهار والنهارات اللاحقة، كنت آكل وأشرب بشهية مفتوحة في غرفة مظلمة، وأنا راضٍ عن نفسي وصيامي، حتى إذا أذّن المؤذن، وامتدت مائدة الافطار، اتخذت موقع الصدارة بين أسرة عمي الصائمة، وأنا أردد بصوت مسموع “اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت”، وأنا أحظى بأفضل انواع الأطعمة، ولا أدري لماذا كانوا يضحكون حتى يغصّ الواحد منهم بلقمته، ولكنني أعترف بعد كل الذي مضى ومضى، أنني لم أستمتع طوال حياتي بمثل ذلك الصيام الجميل، فقد مرّ الشهر الكريم مثل نسمة ربيعية منعشة، من دون أن أشعر يوماً بجوع أو عطش!