تعبير بلاغي

حسن العاني  /

بعد انقلاب 14 تموز 1958، تولى الشيوعيون قبل غيرهم من الأحزاب والحركات الوطنية، فضح مفاسد النظام الملكي وتحالفاته وممارساته القمعية وما ارتكبه من جرائم (يندى لها الجبين) على حدّ التعبير البلاغي الشائع، وقد نفّذ الشيوعيون هذه المهمة بقدر كبير من الاهتمام الاعلامي، لأنهم الأجدر بحمل رايتها، فهم طليعة النضال والسجناء والمعتقلين، ودماؤهم في مقدمة الدماء العراقية الطاهرة التي رسمت معاني البطولة النبيلة وهي تتصدى للعمالة والاستعمار والمعاهدات الجائرة..
صحيح إنني عند سماعي البيان رقم (1) وإعلان الجمهورية كنت طالباً في الصف “الثاني متوسط”، ولكنَّني مؤهل لأن أكون من شهود العيان المحايدين الذين رأوا تلك الأحداث وعاشوا تفاصيلها، خاصة المراحل اللاحقة الحافلة بالأحداث، وبالذات بعد أن بدأ الوهن يدب في جسد الانقلاب أو “الثورة” كما يسمّيها البعض، إلى الحد الذي تفرّق فيه “الثوار” وتآمروا واستطابوا دماء بعضهم البعض، حتى انطفأ آخر شعاع لها بانطفاء رمزها العسكري “عبد الكريم قاسم” واستولت الحركة القومية على زمام السلطة بعد البيان رقم (1) بالطبع، فبادر البعثيون قبل غيرهم من الأحزاب والحركات القومية والدينية، إلى فضح “مفاسد الجمهورية الأولى، وتصوير الزعيم بالدكتاتور الأوحد، ولكنهم ركزوا على خصمهم الأول “الحزب الشيوعي”، متهمين إياه بالقمع والبطش و”السحل” و”الحبال الممدودة” وبجرائم يندى لها الجبين!!
يوم أفُلَ نجم البعثيين بعد تسعة أشهر من الحكم فقط، واستولت الأسرة “العارفية” وما يؤازرها من الحركات والشخصيات القومية والعشائرية على مقاليد السلطة، بادر عبد السلام محمد عارف قبل غيره إلى فضح مفاسد حلفاء الأمس البعثيين، وما رافق حكمهم من ظلم وبطش وقتل، وما ارتكبوه من جرائم يندى لها الجبين، واستمر هذا التوصيف قائماً على عهد عبد الرحمن عارف!!
وعندما اندحر النظام العارفي عبر البيان رقم (1)، وعاد البعثيون إلى الحكم من جديد، كشفوا مفاسد النظام العارفي في السابق وما رافقه من فوضى وفلتان أمني ومحسوبية ومنسوبية ورشوة، وازدهار لسلطة العساكر والشقاوات ونفوذ العشائر، وما ارتكبوه من جرائم “يندى لها الجبين”!!
بعد 35 سنة عندما انتهى حكم البعثيين، وسقط نظام الحزب الواحد، وتدحرج تمثال رمزه في ساحة الفردوس على يد الأميركان ومن دون حاجة إلى بيان رقم (1) وتسلَّمت حكومات ما بعد التاسع من نيسان مقاليد السلطة، بادرت التنظيمات العراقية وفي المقدمة منها الأحزاب والحركات الدينية إلى فضح مفاسد النظام – وبصورة خاصة مرحلة النظام الصدامي – وما رافقه من ظلم ودكتاتورية وجوع وحروب ومقابر جماعية ونرجسية – وما ارتكبه من جرائم يندى لها الجبين، وكنت أتمنى يشهد الله لو أن مجال النشر يتّسع لكي أتحدّث بالتفصيل الممل عن هذه القضية، أعني قضية “الجبين العراقي” الذي ظل ندياً منذ أكثر من ستين سنة.. حتى أن الواحد منا يتساءل، بل طالما تساءل بحزن: أما آن لهذا الجبين أن يجف؟!
إيضاح: “يندى لها الجبين”، تعبير بلاغي يراد به أنَّ جبهة الإنسان تتصبّب عرقاً وتصبح نديَّة من هول الأفعال المشينة!