حسن العاني /
لأنّ دعوة (كريمة) وصلتني من مدير عام تربية (………)، ومن الأعراف السائدة في أعوام الحصار، إنّ الصحفي إذا تلقى (دعوة رسمية)، فإنه يعود مترنحاً بجيب منتفخ، وهل أفسد الصحافة غير (التكريمات)؟ لأنّ وراء كل دينار تحريفاً لحقيقة، او غض النظر عن حقيقة!!
قال لي مدير التربية: [اخترتك بالذات لمرافقتي في زيارة إلى إحدى المدارس الاعتيادية، لأن الجهود المخلصة لمديرها جعلتها من أفضل المدارس.. أنا أعرف –بالطبع- أنك صحفي شجاع وقلمك رائع و … ]، وفيما كان يواصل مدائحه، شعرت بأن جميع الخلايا النرجسية النائمة في جسدي قد تحركت بنشاط غريب و.. وأنهى كلامه قائلاً: [ تعرف أستاذ حسن.. من حق هذا المدير – كما بلغتني تقارير المشرفين التربويين عنه – أن نذهب إليه لنشكره ونتعرف على إنجازاته الكبيرة و..]. ولم أكن معنياً بهذا الخطاب الإنشائي، لاسيما وأنه قد دسّ في جيبي مبلغاً يعادل (ضعف) راتبي، مع عبارة رومانسية: [أرجو قبول هذه الهدية المتواضعة]!!
بصعوبة بالغة سيطرت على مشاعري وأنا أعتذر عن قبول الهدية، واعتذاري مشفوع بأيمانٍ غليظة في مقدمتها القسم بشرفي، لكن الرجل سبقني الى القسم بشرفه: هذه الهدية لن ترجع، ومعروف لدى الجميع بأن (شرف المسؤول) لايعلو عليه شيء، كونه يمتلك حصانة.. ووضعت المبلغ في جيبي على استحياء مفتعل!
فوجئ المدير بوصول رأس كبير (مدير التربية) ومعه كائن مجهول.. غير أن مفاجأتنا كانت أعظم، لأنّ كل شيء في المدرسة كان أقرب الى الخراب، وكان مدير التربية يسأل مدير المدرسة عما يرى أمامه، ولماذا لم يخبر المشرفين التربويين باحتياجات المدرسة؟! الحق أن مدير المدرسة كان شجاعاً، إذ رد عليه: [لقد ابلغت السادة المشرفين التربويين أكثر من مرة، وبعثت تسعة كتب رسمية الى مديرية التربية، والى جنابكم مباشرة، ولكن أحداً لم يستجب و..]. وعلى عجل أنهى مدير التربية الزيارة وهو يربت على كتف مدير المدرسة: [إن شاء الله يصير خير]. وفي اليوم الثاني، مع بداية الدوام الرسمي اتصل بي مدير التربية وطلب مني -بمنتهى اللطف- الحضور لمقابلته، وحين حضرتُ، استقبلني بحفاوةٍ، وما كدنا ننتهي من المجاملات حتى دس في جيبي مبلغاً يعادل (ثلاثة أضعاف راتبي)، اعتذرت عن قبوله، وأخبرته بأنني لم أشرع بالكتابة عن الزيارة، رد علي، وابتسامة عريضة تعلو وجهه: [هذه الهدية لكي لاتكتب عن الزيارة]. في الحقيقة لم ابتسم، لكن أعماقي كانت تهتز فرحاً، ليس فقط لأن المبلغ يستحق الاهتزاز، بل قبل ذلك لأنني تحررت من ممارسة النفاق الذي تفرضه تكريمات المسؤولين!!