د. حسن عبد راضي /
تنشأ الأجيال على دين مجتمعاتها وما تتصف به من صفات وما يميزها من خصائص. ولو عملنا جرداً عكسياً لما نشأ عليه الأطفال انطلاقاً من لحظتنا الراهنة، فإن أطفال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين نشأوا على وضع أمني غير مستقر يضج بالأزمات، وكلها أزمات بالغة السوء؛ احتلال داعش مناطق شاسعة من العراق، ومعارك التحرير، ثم الأزمة الاقتصادية الخانقة والاحتجاجات وما رافقها من عنف، وأخيراً وليس آخراً كورونا وويلاتها.
أما العقد الأول فأهم ما حفل به الحرب التي أسقطت النظام الفاشي في العراق، ثم المقاومة والإرهاب والسيارات المفخخة وموت العراقيين المجاني باسم طرد المحتلين، وويلات من نوع آخر. والعقد الذي قبله (أي التسعينيات من القرن العشرين) كان عقد الحصار والجوع والفاقة الشديدة وانحسار التعليم وانهيار القيم الثقافية والتربوية وتفشي الأمية. وعقد الثمانينيات هو عقد الحرب العراقية الإيرانية طويلة الأمد التي استنفدت موارد البلد البشرية والاقتصادية. وعقد السبعينيات لم يخل من أزمات رغم الاستقرار الظاهري، ففيه حرب الشمال وفيه الانقضاض على الجبهة الوطنية وملاحقة اليسار العراقي ناهيك عن التصفيات الجسدية لكثير من معارضي النظام أو ممن كان النظام يشك بولائهم.
وعلى الرغم من ذلك فإن السبعينيات بسلامها النسبي واستقرارها الاقتصادي الذي رافقه صعود انفجاري في أسعار النفط ترك فسحة صغيرة لنمو ثقافي ظل مؤثراً حتى يوم الناس هذا، فكانت منشورات الأطفال التي تمتعت -حينها- باستقلال مدهش عن أي تأثير آيديولوجي أو دعاية سياسية جعل مجلة “مجلتي” وجريدة “المزمار” المعنيتين بثقافة الطفل من أهم الدوريات العربية التي تخاطب الأطفال، وتنشر نصوصاً شعرية وقصصية وسيناريوهات مصورة وتسالي، اضطلع بتأليفها ورسمها وإعدادها كبار الكتّاب والرسامين والفنيين العراقيين الذين باتوا رواد ثقافة الطفل على صعيد العالم العربي كله. وللإنصاف فإن مجلات (سمير) و(ماجد)، وغيرها من المجلات العربية كانت تصل أيضاً إلى أطفال العراق بانتظام، وكان لها تأثيرها الثقافي في ذلك الجيل.
لقد أسهمت تلك المجلات والصحف وحتى الكتيبات التي كانت تصدر عن دار ثقافة الأطفال في صناعة وعي أجيال، وتكريس القراءة فعلاً ثقافياً بالغ الأثر في نمو المجتمعات الصحي، وفي تهيئة تلك الأجيال للبناء على ما أسسه السابقون في مجالات الحياة المختلفة، ناهيك عن الإسهام الواضح في إشاعة مفاهيم السلام وتقبل الاختلاف الفكري والديني والاجتماعي على أنه اختلاف طبيعي لا يدعو إلى التباغض والكراهية.
إننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى إحياء ثقافة الطفل ودعم المنشورات التي تعنى بشؤونه، وترقية الخطاب الموجّه إليه باعتماد نظرة جديدة ترى في الطفل عقلاً شديد التوقد والذكاء، لا ينبغي المبالغة في تسطيح النصوص التي نكتبها لأجله، بل علينا أن نضع مسافة إلى الأعلى لنجعله يتسلق معرفياً، وذلك لعمري هو السهل الممتنع.