بيان الصفدي
هو شخص قد لا يتجاوز وزنه العشرين كيلو غراماً، كما يبدو لك! بشعر أشعث، وملابس مدعوكة ومتسخة، وابتسامة شبه دائمة من فم أحسب أن ليس فيه سوى سن واحدة طويلة في مقدمة فمه، وسيكارة تكاد لا تفارق شفتيه.
لم يكن جان يتحدث تقريباً، لكنه جاهز للإجابة على أي سؤال مهما كان، فقد أفادته النظرة العامة بأنه (مخبَّل)، وأنقذته من حساب عسير سيطول غيره لو تفوَّه بها، لهذا كان باستطاعته إفلات عبارات جارحة عن السلطة وبعض رجالاتها.
وبحسب ما قرأت وعرفت، فإن جان هو خلاصة شقية لمشروع ثائر متطرف وحالم، وواحد من جماعة (كركوك الأدبية) التي ضمت مجموعة أدباء، من أهمهم فاضل العزاوي وسركون بولس، له خصوصية متنوعة اجتمعت عليه، فانتهى إلى متصعلك شريد مدمن كحول، يداري جرحه العميق التراجيدي بمواجهة عدمية، مغلفة بالسخرية والاستهتار.
وما يلطِّف من عدمية جان وعبثه أنه خفيف الظل، وصاحب أجوبة لمّاحة وطريفة وساخرة وسيريالية غالباً، يطلقها شبه جاد، أو مع ضحكة تظهر سنّه تلك، وهي العلامة الفارقة الكبرى لشكله الخارجي، والطريف أنه –على الرغم من عبثيته- ينشر باستمرار ترجمات أدبية جيدة عن الإنكليزية لمختلف الصحف والمجلات.
ذات يوم يسأله أحدهم للاطمئنان، فيقول له: إي جان شأكلت؟ فيجيب بعدم اكتراث: ولا شي.. صار لي يومين آكل بس هوا!
ومرة جاء إلى دار ثقافة الأطفال صباحاً، ربما في عام 1978، دخل هادئاً إلى غرفة مالك المطلبي، وكنت موجوداً، وقد غطَّى الدم اليابس والطري قميصه من الأمام، وما زال دم طري يسيل من أعلى رأسه إلى أذنيه، وعلى الفور نهض (أبو محسَّد) نحوه مذهولاً، صائحاً: “ها جان شبيك؟ شنو هذا؟” فرد جان بلا اكتراث: “ماكو شي!!” ألحَّ عليه مالك: “قللي جان منو سوا بيك هيج…لازمك مشفى أكيد.” فقال بهدوء أيضاً: “ذولا اللي كنت نايم عدهم بالحيدرخانة ضربوني..لا تهتم.”
أسرعنا، فحمله مالك بسيارته (نصر) الصغيرة إلى مدينة الطب.
في اليوم الثاني، ترى جان في العمل على طاولته يترجم، أو في المقهى، أو البار.
أظنه ليس مدمناً فقط، بل أكثر من الإدمان، فلم يكن يتوقف عن شرب العرق إلا عندما ينام، وهذا دمَّره صحياً، وأظهر صفرة قوية دائمة في وجهه.
جان كان يكتب شعراً سريالياً، ونشر في مجلة (شعر) البيروتية، وقد صدرت له مجموعة بعد رحيله عنوانها (أسمال)، وكتاب آخر عنه وعن سركون بولص، لكن لم تكن قصائده سوى حالات مبعثرة وهذيانية، فيها كل شيء من خيوط حياته المبعثرة.
ذات يوم كان يقرأ في كتاب (ما العمل؟) فسأله أحدهم: “ها جان.. كيف شفت لينين.” أجابه بجدية: “زين زين بس مباشر!”
في القليل الذي سُجِّل له من حوار كان يقدم نفسه هكذا: “أنا لا أعتبرُ الليلَ إلا سريراً للشراب، وصولاً إلى خراب الوعي المؤلم الذي لم يتركنا وشأننا في الثمالة الشعرية التي نريدها،” فهو لذلك “حنفية عرق” و”كل قنينة أفضل من مؤلفات عفلق وماركس وميكافيلي،” و”الحبرُ يقودك إلى غرف الإعدام ومعسكرات الاعتقال وخنادق الحرب،” و”عشت مدوّناً أسمالي على حبال الريح،” و”ما من مكان للاستقرار إلا التشرد.”
صورته العالقة في ذهني أكثر، جان في مقهى البرلمان، وأجواء الحرب المخيِّمة بكآبة في يوم من أيام 1982، وهو يأكل وحده من جِدْر القيمة الموضوع على طاولة وسط المقهى، بعد أن انفضَّ عنه الآخرون، ومالك المطلبي يمازحه: “جان كافي عاد، يبدو القيمة عاجبتك كلِّش!” يضحك جان، ويتابع طعامه بهدوء.