جواد غلوم /
من منغصات الحياة أن لا يحظى الإنسان بصديق حقيقي يكون سنداً ووتداً وظلاً ظليلاً وعكازاً في مسار الحياة المليء بالعثرات والمطبات الكثيرة، وعوناً في الملمّات وناهضاً قويماً من مزالقها الكثيرة، فالصداقة لا تقاس بعدد سنوات المعاشرة، ولا بقرابة الأفراد منا، هي شيء حانٍ محبٌ معطٍ تنبع صدقاً ووفاءً ووقفةً صادقة وجادة عند تخبطنا في الحياة.
تختفي أحياناً ملامح العديد من الشخوص أمامنا وقت الأزمة، وتظهر صورة ذاك الصديق الذي قبل أن تتحدث أو تتكلم يعطيك دفئاً وحناناً وشجاعة لتواكب الظرف وتتخلص منه بسهولة.
الصداقة منهلها وجذرها مأخوذ من كلمة (الصدق) ولا تقاس بكثرة الكلام أو العبارات الرنانة أو ادعاء المحبة، انما هي موقف يتخذه من تمثلت في روحه واحة من العطاء وعمق الإنسانية، تجده حاضراً وقت ما تتوه منك المرساة في عمق بحرك وانت توشك على الغرق، يأخذ بيدك ويمسح دمعتك ويربت على كتفك حانياً مواسياً أوقات حزنك، مسروراً جذلاً ومشاركاً أيام فرحك.
انّ الصديق الحقيقي يهدف الى ان “يجمعك حتى لو شتّتَ نفسه” كما يقول سيدنا أمير المؤمنين عليّ / ع .
ولكي نفوز في حياتنا بصداقات عميقة وقوية وإيجابية وجيدة علينا أن نبدأ نحن بأنفسنا، فنكون خير من يمثّل ذلك قدوة ونموذجاً للحب وللعطاء ولتشجيع من نحب على إكمال مسيرته في طريق الصداقة الحقّة، وهنا نحن نكمل دورنا الإنساني من تكامل وتكافل وتعاون مثل النسيج المتماسك، فلا نطلب من الآخرين صداقتهم ونحن قلوبنا خاوية من معنى ومفهوم الصداقة ، كيف نطلب ونحن لا نقدمه ولا نعترف به أو أخذتنا «الأنا» عالياً عن مساعدة الصديق!
الحياة مليئة بمواقف تحدث أمامنا، كيف تشاهد وقفة الصديق المخلص والمحب أحياناً أكثر من الأخ والقريب، يعلمنا هذا كيف نكون بلسماً لأعز أصدقائنا متى ما احتاجوا إلينا، وليس فقط في الاحتياج أو الظرف، بل واجب الصديق أن يساعدك في رؤية زوايا الفرح والنجاح متى ما بعدت عن الطريق، وأن يكون لك اليد المعينة والساعد المنقذ والعقل المستشار والمخلص لك.
يحدث كثيراً لو غاب صديق منذ فترة طويلة ومكث بعيداً عن مرابعنا، وعندما يعود لأرض الوطن ؛ تقدمَ لزيارة صديقه وقد غيّرت منهما الحياة ملامحهما؛ كبرا حدّ الهرم وعصفت بهما رياح البعاد، لكن ظلت تلك الشعلة القلبية مشتعلة بالحب والودّ والقرب، فلم يغيرهما عدد السنوات أو بعد المسافات، وعادت الحياة بينهما كأنهما لم يفترقا أبدا، هذا يعطينا معنى الصداقة الحقيقية التي لا تختفي ببعد ولا تذبل بقسوة الظروف، بل تبقى حاضرة رغم الغياب وقوية رغم الفرقة الطويلة.
وإن فتحنا نافذة اليوم قليلاً وبدأنا نتأمل حياة الأفراد نجد أنهم أخذوا من الحياة العصرية سلبياتها وأنستْهم جوهرهم الأساس، بل تفننوا بالفردية البحتة التي تقول “أنا ومن بعدي الطوفان”.
هلّا توقفنا قليلاً لنعرف ما الحياة من دون صديق وأنيس يحاكي داخلك بصدق ويعرف قوتك وضعفك اذ “شرّ الحياة حياةٌ لا صديقَ بها”.
انّ الاعتماد على النفس تصرّفٌ جميل ومهم، ومحبة الذات أيضا جميلة ، لكن هل وجدت تلك الحياة لكي يعيش كل فرد بعالمه منزويا عن الآخر؟؟ هل وجدت الحياة للعمل والمال والانعزال؟
هذا ما تجاهلناه مع عصر التغيرات والقفزات والادعاءات، إن جوهر الأرواح كما وجدها الله عز وجل في التعاون والتكامل والعطاء المتبادل لعمارة الأرض وتسكين الأنفس ؛ فالحياة لم توجد للفردية والانعزال، وهنا يأتي دور التوازن في كل شيء، فالتوازن بأن تحب وتعطي نفسك خصوصيتها واعتمادها على نفسها والعمل والسعي في الحياة، وهذا دورك الطبيعي فيها أيها القارئ العزيز، فلن يأتي أحد يسقيك كأس الماء او يوفّر لك وجبة تقيم أودَك إذا لم تتحرك أنت، وأيضا هناك دور ثانٍ مهم جداً وهو علاقاتك بمن تحب من أقرباء وأصدقاء ودورك تجاههم، وهذا ما نقصده فيما نكتب، هو دورك تجاه صديقك لتسأل نفسك ؛ ماذا قدمت له من رأيٍّ أو معلومة أو مساعدة او دعم، وهل فعلاً نحن نشعر بأهمية هذا الدور، أم نعتبره نوعا من الكماليات؟
حقّ علينا أن نتساءل اليوم من هو صديقك؟ وماذا قدم لك؟ وماذا قدمت أنت له؟ وهنا لا نشترط في الصداقة شيئاً معيناً ولا نجبرها على شيء، لكن متى ما احتاج الفرد وقفة صديق يدرك تماماً أنه يرافقه في أفراحه وأحزانه، وأنه سنده وقوته بعد الله الرؤوف الرحيم بعباده.
بقي أن نقول إن الصديق ليس في وقت الضيق كما يشاع في الأمثال بل في السعة أيضاً لتقف معه سانداً حافظاً ناصحاً لا طامعاً فيما يملك وفي الحالين أن تقف مع من تحب في السرّاء والضرّاء، وتلك لعمري أمتن العلاقات بين اثنين تحابّا في الحياة مثلما تحابّا في الله إخلاصاً لا خلاصاً من متطلبات الدنيا وأطماعها.