حسن العاني/
الليلة، كما ليالي الأعوام الماضيات، منذ خمس وأربعين من السنين مضين، حيث يودع الشتاء رعشته في الجسد، تغادر المنزل أيها المتوكئ على شيخوختك، تطوف كرّادة بغداد ومنصورها وأسواقها، شموع وحلوى وأشرطة وبالونات ومعجنات وكرزات وما يأسر عينيك، تنتقيها وكأنك تنتقي خاتم خطوبة، أو هدية أول موعد مع الحبيبة، موشوماً بالبهجة، ومريم –الزوجة والعشق والكف الحنون- تنتقل بمتاعب العمر المجهد رشيقة بين أرجاء المطبخ، تهيئ مائدة مما يشتهي الأبناء رأس كل سنة، وبين حديقة المنزل علّها تعثر على وردة هنا وغصن أخضر هناك.. صخب لا يهدأ.. صخب محبب الى الروح، وأحفادنا لا يكبرون، حتى من تخطى سن الشد، مازالوا يريدون (كيكة)، كما لو أنهم يحتفلون بعيد ميلادهم.. أقول لها (يا مريم لا تتعبي نفسكِ.. أنا سأجلبها معي) وتردّ عليّ (هل نسيتَ أنهم يفضلونها من يدي، مثلما عوّدتهم محشوةً بالجوز)، وصوتها يتابعني وأنا أتكئ على مواجع السبعين متوجهاً نحو الباب (لا تنس عصير الأناناس فهو حبيب إيمان.. ولا تنسَ التين فهو معشوق ابراهيم) وأطمئنها (لن أنسى.. ولن أنسى الفستق الذي يعبده جمال)..
ومن منصور بغداد وكرادتها وأسواقها أعود مترنحاً بالأكياس والبقلاوة والسجق و(منّ السما) والكرزات والعصائر، ومن سوق محلتنا أتبضع التفاح، سهاد تريد اللون الأحمر، ومصطفى مهووس بالموز، وجسدها المتعب يهرول نحوي وصوتها يعاتبني بغزل (كبرتَ يا حبيبي على هذه الأكياس كلها.. أنت يا رجل عافاك الله تنهك بقايا العافية)، ولكن الأبناء ما كبروا، تزوجوا وأنجبوا، واستطالت شواربهم وجدائلهم، ومازالوا أطفال الأمس، يشتهون طعام أمهم.. كبرنا يا حبيبي ولم يكبروا ما شاء الله، ولكنهم يحسنون مداعبة زوجاتهم (تموتين يا فلانة ولن تطبخي مثل أمي.. تعلمي يا فلانة كيف تعمل أمي كبة حلب.. أمي فنانة أما زوجتي فسائق لوري.. يا فلانة، الحمد لله بنتي تشبه أمي)، كذلك كان أولادنا يمرحون ويتعالى الضحك. غير أن مريم التي اصطفيتها زوجاً وحبيبة –من غيرها كان سيوبخ الأولاد –(نساؤكم ما شاء الله أحلى من القمر، ويطبخن أفضل مني، ولكنكم صبيان جاحدون). ويطيب خاطر الزوجات، ومريم على عادتها لا تفوت فرصة للمزاح/ في ليلة رأس السنة، وفي كل مناسبة تجمع أسرتنا الكبيرة/ إلا وأثارت موجة من الضحك (أيها الملاعين.. أولادي وأعرفكم جيداً.. لعلكم متفقون مع زوجاتكم كي يجلسن مثل الأميرات المدللات وأنا أطبخ وأنفخ.. مؤامرة إنها مؤامرة)، وتدمع العيون ضحكاً، (المتآمرون) يتعبون من الضحك، وفي غرفة الدار العلوية يتجمع الأحفاد، إحدى عشرة شمعة لأحد عشر حفيداً، ومائدة عامرة برغبات الصغار، وجدران مزينة بالنشرات الضوئية، ومباهج العيد، ومع ذلك لا تمر دقيقة، إلا ويهبط أحدهم يسبقه عياطه وبكاؤه (جدّة.. قيس سرق تفاحتي.. جدة مريم.. علاوي ثقب نفاختي.. جدة.. فطومة كسرت شمعتي.. جدة مريم.. ليلى أكلت موزتي.. جدة جوعان.. جدة.. جدة.. جدة). ومريم رفيقة العمر وذاكرة الدراسة الجامعية وأيام العشق العفيف.. مريم مركز الشركة الذي يستقبل شكاوى الأحفاد.. مريم نكهة الجلسة والمائدة والمحبة والكون.. مريم آلهة الرحمة لا تضجر ولا تتعب (هذه نفاخة بديلة.. هذه موزة جديدة.. هذه شمعة ليست مكسورة.. الطعام في المطبخ.. تعال معي..)، وفي الليلة التي يطل فيها راس السنة الأنيق، لا عودة للأبناء الى منازلهم، الجو بارد على الأطفال، إذهبوا، تقول لهم، مع زوجاتكم وأتركوا الصغار معي، لكن لا أحد يفكر بمغادرة المكان، إنه لقاء الأسرة الكبيرة المنتظر، وينتصف الليل وتتعانق عقارب الساعة ونطفئ الشموع معاً، ثم نتبادل التهاني.. الكل، أحفادنا وأبناؤنا ونساؤهم يحيطون بها، يمطرونها قٌبلاً ودعوات بالعافية والعمر المديد، (وأنا؟)، أتصنع الغضب، (وأنا. أليست لي حصة يا كلاب.. أنا من انحنى ظهره بالأكياس وتعبت قدماه بين المنصور والكرادة والأسواق.. ألا أستحق قبلة يا أولاد ال…) ويأتيني صوتك يا مريم موشوماً بالدفء الوفاء (أنت الأصل والبركة والشجرة التي نستظل بها)، وفجأةً كهجمة الدبابير وطنينها يتقاسمني الجميع قبلات ودعوات طيبات..
من غير كلمة وداع يا مريم ولا استئذان قررتِ الرحيل وحيدة، الليلة يا ألق الروح سنة من غير رأس، فكيف يكون للزمن مذاق، منْ يطلّ علينا، من يكون سيد الجلسة ومركز الكون، من يلبي رغبات الأحفاد ومن يدلل الأبناء، الليلة يا وجع العمر لمن نوقد الشموع، الليلة يا خمساً وأربعين من سعادات الرحلة تتفتح ذاكرة العشق، لكن شيخوختي وحيدة، وأنت ترحلين الى ملكوت السماء وحيدة، فلا روح على المائدة، ولا طعم لسنة من دون رأس، ولا نكهة لغير الدمع..