حدث في صباح ما

جمعة اللامي/

كان الفضاء أسود.

وأمطرت السماء الأرضَ بماء مثل ما فاض التنور حين وقفت على (السدة الشرقية) أرسل بصري الى الأرباض البعيدة لبيوت الطين المتاخمة لبيداء من المياه الآسنة والأدغال الغبراء والأبراج الشاهقة لمعامل صناعة الطابوق، بينما كائنات تبدو لي مثل أشباح زرق تهيم على وجوهها بجوار نُهير في ذلك الصباح.
كنت أخوض في وحلٍ وطني.

وكان عقلي اليافع يحلم بيوم قريب، نقف فيه فوق هذه السدة، ونحن نحمل سعف النخيل وننادي لعراق سعيد، تكون ثروته لأبنائه كلهم، من شماله الى جنوبه، وكل الخدمات الصحية والاجتماعية والتربوية تتكفل بها الدولة.
كيف تكون مشاعر شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة، وهو يحمل هذه الآمال الكبيرة؟
نزلت من السدة، ومشيت بجانب المبنى العتيق لجريدة (الزمان)، ثم صرت في الشارع العام أمام (القصر الأبيض) وعلى يساري تمتد الفيلات البغدادية الباذخة.

لم يكن ثمة وحل وطني، ولا منازل تغرق بالماء الأخضر الآسن.

ليس هناك جاموسة واحدة تنادي على ابنها بينما عيناها تهملان دمعا أسود.

“مدينتان ، ياجمعة”.

وثقافتان.

بعد نحو ثلاثين دقيقة، كنت أقف خلف الصف الأخير في الطابور العسكري الصباحي المعتاد لـ(سرية مخابرة اللواء المدرع السادس) بمعسكر الرشيد، أعيد التفكير في تلك الكلمة البليغة: “ثقافتان”.

فجأة، ظهر آمر السرية، محاطا بمجموعة من الضباط وضباط الصف الذين اعرف هويتهم السياسية، وتوجه نحو مكان وقوفي حتى وصل اليَّ، وقال شامتا: وقعت يا (…) !

بقيت رافعا يدى اليمنى بحوار صدغي، قائلا (كنت الليلة الماضية في منزلي”.

التفت المقدم نحو رئيس عرفاء السرية، فتقدم هذا نحوي ونزع نطاقي وغطاء رأسي، ثم قيدوني وقادوني الى (سجن السرية).

كان رفاقي الجنود ينظرون الى المشهد مبهوتين.

كنت أسير بين ثلة الحراسة، بينما صور بيوت “خلف السدة الشرقية” تبدو أمامي وقد غمرها ظلام أسود.
وفكرت كثيرا بأمي في هذا الصباح وهي تودعني قرب باب بيتنا:”يُمّــه… الله ويّاك”