عبد الحليم الرهيمي /
تأسَّست في مدينة الحلة، نهاية ثلاثينيات القرن الماضي حديقة عصرية ترفيهية سمّيت (حديقة النساء) إذ لا يسمح للرجال بدخولها، بل خصِّصت لاستراحة النساء واستجمامهن، ذلك أن الظروف الاجتماعية آنذاك لا تتقبل الاختلاط، وكانت الحديقة فعلا مكاناً للقاءات وتجمع نساء المدينة (في الهواء الطلق) والتخفيف من الملل وزهق المكوث الطويل في البيوت، لا سيما أن الحديقة تقع في مركز المدينة على إحدى ضفتي شط الحلة من جهة وبجانب الشارع الرئيس للمدينة من جهة ثانية، يفصلها عنه رصيف نظيف يغري المرء بالسير فيه والتطلع بمتعة إلى المناظر الجميلة الخضراء في الحديقة.
كان محافظ (متصرف) المدينة آنذاك هو سعد جبر الذي بادر في إطار حملة (حكومة ذاك الوكت) لتجميل المدن بالحدائق والمتنزهات والشوارع النظيفة، فأسّس هذه الحديقة لتكون معلماً عصرياً وترفيهياً للنساء والمدينة، مع الحرص على استدامة نظافتها والحفاظ على هويتها حتى بدء انحدار تلك الهوية والخصوصية وامتناع النساء عن القدوم اليها منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ثم زاد سوؤها وإهمالها منذ الحرب العراقية الايرانية وطوال فترة العقوبات الدولية.. وتفاقم أكثر بعد عام 2003.
قد تبدو هذه مفارقه مثيرة ومحزنة في آن معاً، ففي ظروف تأسيس هذه الحديقة التي اتسمت بوقت يوصف بالتخلف الحضاري وتدني المستوى التعليمي والثقافي العام، يلغى هذا المعلم الحضاري وتلغى هويته التي رسخها في مراحل شهدت تقدما وتطورا حضاريا، وهو الأمر الذي لا يقتصر على هذه الحديقة بل هو مؤشر على التراجع عن تلك المظاهر الحضارية للزمن الجميل.
في تحقيق صحفي عن هذه الحديقة تحدَّث معمرون شهدوا العقود التي كانت فيها هذه الحديقة مزدهرة ومحافظة على هويتها، أحدهم قال إن الحديقة هي أروع معلم في الحلة، وقال آخر إنها رمز الجمال والفنون، في حين قالت إحدى السيدات: لي في هذه الحديقة ذكريات جميلة، فأنا أحزن كثيراً كلما مررتُ من أمامها الآن، وحينما أدخل اليها أجدها فقدت رونقها.
والآن وفي منتصف جدار حجري فتح فيه باب صغير كتب عليه: (قاعة حديقة النساء: بليارد، منضدة، ألعاب الكترونية) فقد استثمرها أحد المواطنين تجارياً!! وبوصفه لوضع الحديقة الآن قال ربع الحقيقة، فشاطئ الحديقة تحوّل إلى مكبّ للنفايات وجمال غصونها وأزهارها وثيّلها تحولت إلى مربعات تباع فيها المشاوي وتنتشر فيها العربات التي تبيع كل شيء.
لذلك يتساءل كثيرون من أبناء الحلة: متى ترفع تلك اللافتة اللعينة عن تلك الحديقة؟ ومتى تتولى قيادة المحافظة اقتلاع ما طرأ عليها من تغييرات بشعة لهويتها بالعودة إلى خارطة تأسيسها وصورها آنذاك.. وعندها ندعو النساء ثانية إلى القدوم للاستراحة والتنزه والاستمتاع بجمالها وهويتها القديمة.