حسين سعيدة وأنا

عواد ناصر/

سعيدة بتسكين السين، وهو صيغة تأنيث للمذكر، وهذا نادر في اللغة العربية. لكن للهجة الشعبية فطرتها اللغوية التى تتأبى على القواعد الفصيحة. حسين سعيدة مطرب شعبي عراقي، من جيلنا، نحن السبعينيين، أسمر البشرة، فقير ومقتنع بنجوميته المحدودة، رغم أنه ظهر في تلفزيون بغداد، كلما جُمع مطربو الريف العراقي في الأعياد، خاصة.

رأيته وجها لوجه مرتين، في الأولى خلال حفل عرس مع فرقة إيقاعات، نسميها “الشدّة” أعضاؤها زنوج وبيض يتعايشون ويتنادمون حول الكأس والوتر والصوت. هي مهنة، بالتأكيد، للتعيش لكنها مناسبة للفرح والطرب والمشاركة.

في ذاك العرس، في منطقة “الداخل” من مدينة الثورة، رأيت حسين سعيدة مطرباً يشيع الفرح بين الحاضرين، لكنه عاشق حزين. هكذا أوّلتُ نبرة صوته الجنوبية، وحسدته على أمرين: الأول: على جمال صوته الأخاذ، وأنا ابن السبعينات التي كرست مطربين مشاهير غنوا أغنية حديثة، بل مختلفة عن أغاني من سبقهم، والثاني: على تلك المرأة التي يبثها شكاته ولوعته، وهو يغازلها غناءً يفيض بالعذوبة، سواء أحب حسين من طرفين أو من طرف واحد، أو بلا أي طرف. رأيت هذا المطرب ثانية، مصادفة، عندما أنهيت دوامي، معلماً، في مدرسة القائد الابتدائية للبنين، بالچوادر، وأخذت مقعدي في الميكروباص التي كان أهلنا هناك يسمونها “الفورتات” وهي جمع “فورد” ماركة السيارات الأمريكية الشهيرة. صعد حسين، وأنا أعرف وجهه، من التلفزيون وذاك العرس، فألقى تحيته على الراكبين، وسرعان ما صاح السائق على مساعده (السكن): “أبو علي، واصل”، أي لا تأخذ منه أجرة. الغريب، جداً، أن أبا علي، حسين، خصني بتحية خاصة، وباسمي الأول، مسبوقاً بصفة “استاد” العامية لا “أستاذ” الفصيحة!.

كنت أحسب نفسي بعيداً عن بيئة المغنين الريفيين، في مدينتي، الثورة، أو في عاصمة الغناء والألم بغداد، برمتها، فكيف تأتى لنجم هذه المدينة الشعبية الكبيرة أن يعرف شخصاً مثلي ويحييه باسمه؟. لم أشأ أسأله، وسط زحمة الصاعد والنازل في تلك السيارة، لكنه انتقل من مقعده إلى جواري ما إن صار المقعد المجاور لي شاغراً، أمسكني من يدي، وهو يعرب عن امتنانه لأن معلماً مثلي دافع عن تلميذة تعرضت لتحرش من زميل مشاغب، ك”ابن حمولة” شهم دافع عن ابنته وحماها من ذلك التلميذ، الذي كان خطراً أكثر مما هو مشاغب، والحكاية طويلة لكنها كانت حديث الأهالي في الجوار. حسين سعيدة، صوتاً، يتميز بمهارة استثنائية، حيث الانتقال السلس بين الجواب والقرار، والخروج من قالب التقليد، رغم أنه من مدرسة المعلم داخل حسن، لكن حسين، الذي يمثل داخل حسن مرجعية فنية له، كثيراً ما يتمرد على هذه المرجعية، ليؤدي وجعه الخاص وتجليه الذاتي، ثم يعود إليه داخل الأبوذية الواحد. لو أتيح لهذا الحسين فرصة أن يتعلم موسيقياً، وأن يجد من يروّجه ويرعاه، لأصبح مطرباً عربياً يشار إليه بالبنان كما يقال، وليس أن يبقى نجماً لمدينة الثورة، نجماً كبيراً ولكن لا يعرفه أحد. يغني حسين:يمحبوب الكلب، تعبان، منهك. وما لومك على الهجران منهك (ما أنهاك). معرفت اليكلّي جيب من هاك. أسوي زين شين يرد عليّه. تحية لهذا المطرب الفذ، حيّاً، ورحمة لروحه إذا كان راحلاً.