حسن العاني/
تمثل الأعوام الواقعة بين 1951 لغاية 1956، المرحلة الأهم في تكوين شخصيتي الطفولية وامتدادها المستقبلي، فقد شهدت دخولي مدرسة الكرخ الابتدائية في محلة الجعيفر، وتخرجي فيها، وعلى كثرة الصور التي تختزنها ذاكرتي، إلا ان إحدى الشخصيات استقرت في اللاوعي، انه جارنا (العم ابو صباح)، وصباح ولدٌ في عمري تماماً.. وحيث لم يكن لي اشقاء ولا شقيقات، فقد كنت ألعب معه في بيته ومع اشقائه.
في تلك المحلة المغرقة بشعبيتها، كان العم سلمان صالح، وكنيته (أبو صباح) حالة غريبة على الجعيفر، فالرجل موظف كبير، شديد الأناقة، كل شيء فيه من عطره الى لغته المتمدنة بعيد عن طباع السكان.. ومع ذلك تأثّر الرجل كثيراً باخلاقيات المحلة وناسها.. البساطة والطيبة والنخوة والمواقف الرجولية، وكان العم سلمان يمتلك (عوداً) في منزله، يعزف عليه كل يوم، مردداً اغاني محمد عبد الوهاب.. طبعاً ليس من حقي الحكم على مهارة الرجل العزفية وجمالية صوته، ولكن من الانصاف القول: إنّه حبّبَ الموسيقى الى روحي، وجعلني (وهابياً) في مرحلة عراقية تخضع يومها لشيخ الغناء الريفي حضيري ابو عزيز.. وكان يقول لنا كلاماً أكبر من استيعابنا: الانسان حين يتعلم الموسيقى تصبح مشاعره رقيقة، وتتحرر غرائزه من العنف والكراهية وإيذاء الآخرين، ويبدأ يحب الناس ويتسامح مع المسيء.. ويمضي قطار العمر.. أعبر الطفولة والمراهقة والشباب و.. واتنقل بين الماء الأبيض ومواجع الروماتزم، وتتسرب مئة حكاية وصورة، الا العم سلمان، ولهذا وجدت نفسي من حيث أدري ولا أدري أتبنى اسمه بعد 30 أو 40 سنة، بعد تحريف بسيط مقصود من سلمان صالح إلى (سلمان الصالح)، بطلاً في العديد وللعديد من نتاجي القصصي والصحفي.. ثم ما عسى لمن ابتعد بهم القطار وأنهكهم السفر، إلا ان يجتمعوا في محاولة لترميم الذات، وتبادل المعلومة عن مشاهير الأطباء وأخبار العقاقير..
وذات ليلة تحدثنا طويلاً كالعادة، وعلى سجيتي الانطوائية، كنت مستمعاً جيداً، حين فاجأني أحد عجائز الاجتماع وسألني عن هوية سلمان الصالح، فتحدثت عن هذه الشخصية بحب، وأغنيتها بتصوراتي الخاصة، وافترضت إنه انسان نزيه ومخلص في عمله، لا يقرب القرش الحرام، ويمقت الخصومات المذهبية والأثنية، و.. وقبل أن أختم كلامي علق احدهم ساخراً: “أعتقد ان سلمان أفندي وأمثاله قد انقرضوا، ومن الضروري ان نستنسخ فد عشرين.. ثلاثين واحد!!”.وفيما انفجر المكان ضاحكاً.. كنت وحدي أبكي بصمت..