د. حسن عبد راضي /
يعلم القاصي والداني أن الدول والحكومات قد تُضطر إلى رفع أسعار بعض المواد تحت ضغط أزمة ما، أو استجابة لمتغير اقتصادي ما، لكن المواد الأساسية هي آخر شيء تفكر في رفع أسعاره، لأن تلك المواد تمثل قاعدة اقتصاد الشعب، والملاذ الأخير للفقراء والطبقات المهمشة، وهي تشتبك اشتباكاً وثيقاً بكل شيء تقريباً، ففور رفع أسعارها ترتفع أسعار كل الأشياء الأخرى وتتخلخل القواعد الاقتصادية، وتشيع حالة من انعدام الثقة في المناخ السياسي العام، ويشعر المواطن العادي، سواءٌ أكان بلا عمل أم موظفاً في أي من القطاعات منخفضة الأجور، أنه أصبح أكثر قرباً من خط الفقر، بينما يزداد عدد المنخرطين في نادي القابعين تحت ذلك الخط اللعين.
أتذكر أن النظام السابق عندما أراد أن يلعب هذه اللعبة مع الشعب العراقي أواسط الثمانينيات، وكان اقتصاد البلد ما يزال متيناً وكانت معدلات تصدير النفط كافية لتوفير سلة غذاء المواطنين، ناهيك عن أن الزراعة لم تكن تعاني من مشكلات كثيرة، عمد إلى رفع سعر مادة يحتاجها كل بيت عراقي، وهي مادة معجون الطماطم، وكانت نسبة السعر الجديد (دينارين ومئة فلس) إلى السعر القديم (400 فلس) للعلبة الواحدة تساوي 525 % الأمر الذي أربك الناس حينها، و”دوّخهم” ويبدو أن تلك كانت هي الغاية.
ثم لما جاء الحصار والعقوبات الاقتصادية وإجراءات الحكومة آنذاك التي عمّقت جراح الشعب وزادت من معاناته، حَذَفَ الناس اللحم والدجاج ومشتقاتهما من موائدهم، وحذفوا الفاكهة من سلال مشترياتهم، وحذفوا الحلوى والمرطبات من ذاكرة أطفالهم، ثم تسارع الانهيار وعاد الناس يجترون ما كانوا نبذوه أيام رفاهيتهم الاقتصادية القصيرة؛ فنبشوا من مكبات النفايات إطارات السيارات “التاير أبو الريحة” واستخرجوا “ماطورات” الثلاجات وأعادوا تصليحها، وخاطوا البطانيات معاطف و”قماصل” وقلَبَ الشباب ياقات قمصانهم مرتين، ولم يكن ذلك، وحقكم، من باب إعادة التدوير، بل “من لا جارة” كما يقال، وانهار آخر دفاعاتهم حين أكلوا الخبز المصنوع من القش والنوى وبعض الحنطة السيئة.
اليوم يعيش المواطن إرهاصات وضع كالذي مرّ، إذ ارتفعت أسعار الطماطم والزيت والخبز على نحو مفاجئ ومن غير سابق إنذار، وحتماً من غير ضرورة مُلجئة، فأسعار النفط في أفضل حالاتها وتتعافى أكثر شيئاً فشيئاً، ومعدلات التصدير بألف خير أيضاً، والطماطم تُزرع بوفرة من الزبير حتى زاخو، ويضطر زارعوها أحياناً إلى إلقائها في الشوارع، إذ لا أحد يشتريها ويسوقها ويوصلها إلى المواطنين، بينما تصل طماطم الدول الشقيقة والصديقة معززة مكرمة عابرة إلينا آلاف الأميال، وبضعة “منافذ حدودية”، الأمر الذي يدفعنا إلى التفكر والاستفهام عمن يقف وراء تلك الإجراءات المتعسفة! وعن موقف الحكومة والفعاليات السياسية والشعبية من كل هذا، وسبب هذا السكوت المريب.
عمي.. سايمين الله ومحمد وعلي عليكم.. خذوا اللحم والدجاج والرفاهيات كلها، ودعوا خبز الناس للناس.