حسن العاني/
منذ غادر صديقي الشاعر عيسى الياسري العراق متوجهاً الى كندا في تسعينات القرن الماضي وأنا لست أقل حرصا منه على تأمين الاتصال بيننا، والاطمئنان على أوضاعه الصحية، خاصة انه يعاني من مشكلات في القلب، وبعد (2003) حيث دأب على زيارة العراق بين الحين والحين الآخر، أصبحت أشد حرصا على زيارته في بيته، وغالبا ما كنت اصطحبه في جولات قصيرة الى بعض الأماكن البغدادية والشوارع والمقاهي التي كنا نرتادها، في محاولة لاستعادة شيء مما تختزنه الذاكرة عن معالم العاصمة الجميلة.
قبل بضع سنوات خلت، زرته كالعادة في منزله العامر بالمحبة، وذلك لتهنئته بسلامة العودة من الخارج، والاطمئنان على أوضاعه الصحية في الوقت نفسه، ولعلها من محاسن المصادفات، ان أجد عنده غير واحد من اصدقائنا المشتركين، لم ألتق اغلبهم منذ مدة بعيدة، فكانت واحدة من امتع الفرص التي جاد بها الزمن في ذلك اليوم.
كان من الطبيعي ان تحظى أحاديث الياسري عن وضعه في كندا وغربته هناك، صدارة الكلام، ولم يبخل علينا الرجل بسيل من المعلومات التي يرقى بعضها الى مستوى الدهشة والغرابة وربما عدم التصديق من ذلك على سبيل المثال، انه كان خاضعا لفحص شهري في المستشفى، فأذا حل موعد الفحص يوم الثلاثاء مثلا، فأن موظفة المتابعة في المستشفى تتصل به هاتفيا مساء الاثنين لتقول له: (استاذ عيسى.. موعد الفحص غداً عند الساعة التاسعة صباحاً، ارجو ان لا تنسى ذلك)، ويعلق الياسري والتعليق لنا: انهم يعاملونني وكأنني وزير من وزرائهم..: ولعل ظرافة التعليق دفع أحد الأصدقاء الحاضرين الى التساؤل بسخرية مريرة (عمو عيسى.. صارلك عشرين سنة تقريبا بكندا.. كم مرة صار تماس كهربائي بالمستشفيات؟!)، واكتفينا بابتسامات حزينة!!
كلام طويل عريض عن الحياة هناك، ثم انتقل الحديث – من باب التطرية – الى نسوان كندا، قبل الانتقال الى أوضاع العراق، ومن البديهي ان تحتل الأوضاع السياسية والاقتصادية المرتبة الأولى في حواراتنا، وكان من الواضح ان هناك ما يشبه الاجماع على طغيان المؤشرات السلبية، وانها تتسيد المشهد العراقي من دون منازع، مثلما كان هناك اجماع كامل على ان فايروس الطائفية ومحاصصاتها التي بذرها (بول برايمر)، ووضع لبناتها الأولى بقبول من أطراف افادت من استفحال هذا الفايروس، هو من يقف وراء ماحصل للبلاد من ويلات وتراجع مخيف، ولهذا نال السيد (برايمر) والسيدة اميركا ومن وافقهما على طائفيتهما، كل مايخطر على البال ولايخطر من شتائم مبتكرة!!
الأمر الواقع، ان الحاضرين اتفقوا على ان التنوع الديني والمذهبي والقومي يمنح الوحدة العراقية ثراء جميلا في اللغة والثقافة والطقوس والفولكلور، وفجأة علق احد الاصدقاء قائلا (آني راسي مرتاح… لاسني ولاشيعي) وضحكنا من مرحته الهامشية، ولكنها من جانب آخر، فجرت اجواء من الفرح مفتوحة على مصاريعها، وأطرف ما في ذلك الجو ان الأصدقاء (السنة) كانوا يروون (نكاتاً) ومواقف عن السنة فيضحك الحاضرون جميعا، فيرد عليهم (الشيعة) بالمثل نكاتا ومواقف عن الشيعة، وضحكنا بلا حساب، ثم تطورت الأجواء الى مناكدات مازحة، فقد قال احد السنة (سأطلق زوجتي الشيعية اذا لم تتحول الى سنية) ورد عليه احد الشيعة (سأطلق زوجتي السنية اذا لم تتحول الى شيعية)، كان الضحك يتواصل، ولكنه بلغ ذروته عندما قال احد الأصدقاء (هذه أعظم خطوة تقومان بها، لأنني انوي الزواج من مطلقتين احدهما سنية والأخرى شيعية).
وفي عنفوان ذلك المرح قال صديق شيعي ( السنة حكمونا 35 سنة، والحكم صار بأيدينا، ولن نسلمه الا بعد 35 سنةً)، وتساءل صديقنا المسيحي (والله نحن مساكين خضعنا لظلم السنة والشيعة، فمتى يأتي دورنا لنظلم السنة والشيعة ولو لمدة 35 يوما)، وكدنا نسقط على ظهورنا، غير اننا توقفنا بصورة نهائية عن الضحك، فقد حضر ماهو أهم من احاديث السنة والشيعة والقوميات… انها مائدة عيسى الياسري ورائحة الشواء..!!