ربما ليست مهمة!

عامر بدر حسون /

دعيت ذات عام لفعالية ثقافية في الدانمارك، فكانت مساهمتي من أغرب المساهمات: محاضرة ومعرض عن الأشياء الثمينة التي فقدت قيمتها!
إقامتي الطويلة في الشام جعلت بيتنا مستودعا آمناً لأثمن ما يملكه المنفيون:
رسائل حب تبادلها حبيبان قبل زواجهما، عقود زواج، ورقة صغيرة من المستشفى تحدد وزن المولود، صور عائلية، هويات مهنية قديمة، دفاتر تلفونات، جوازات سفر منتهية او مزورة، أوراق وقطع أقمشة وهدايا صغيرة وأشياء لا يمكن عدّها.
*
كانت تلك الأشياء هي خلاصة ذكريات المنفيين الذين قرروا اللجوء الى أوروبا بجوازات سفر مزورة في الثمانينات: برازيلية أو بحرينية أو أردنية. وكان عليهم قطع أية صلة بأسمائهم وقصصهم الحقيقية وكل ما يمكن أن يدل على شخصياتهم الحقيقية. اللجوء يحتاج لقصة منطقية، وقصص العراقيين الحقيقية لم يكن تصديقها ممكناً تلك الأيام.
لكن أحداً ممن أودع عندنا تلك الأشياء الثمينة، لم يعد للمطالبة بها، فلقد عاش بعضهم باسمه الجديد وقصته الجديدة وصارت تلك الأشياء تهدد بكشف اسمه وقصته الحقيقية، ورسائل الغرام انتهى بعض كتّابها إلى الطلاق! والأطفال كبروا وغادروا ولم تعد ثمة قيمة لورقة من المستشفى تدل على وزنه، وبعض أصحاب هذه الموجودات مات أو ضاع، لكن ما أذكره بشكل واضح هو أن تلك الأشياء وضعت عندنا مع توصيات حارة بضرورة الحفاظ عليها.
لكن الحياة، معلمنا الأقسى والأروع، حولت تلك الكنوز الثمينة إلى أشياء بلا قيمة! فالأشياء بذاتها قد لا تكون مهمة، لكن شعورك بها هو الذي يمنحها المعنى، وعندما تبدلت الحياة وأولوياتها تضاءلت قيمة تلك الأشياء، وعندما كنا نسألهم ماذا نفعل بأماناتكم؟ كان الجواب: تصرفوا! وكنا نفهم انها تعني ألقوها في القمامة.
*
من هذه الأشياء، يوم كانت عزيزة على أصحابها، فكرت بإقامة معرض، وقد رحبوا بالفكرة، فهم إضافة لحبهم للصرعات، يحبون التوقف عند رموز الحياة المنسية.
ولسبب خارج عن إرادتي لم أذهب، لكنني أرسلت المحاضرة عن هذه الأشياء حيث ألقيت بالنيابة دون وجود المعرض، وواسيت نفسي بالقول، انني سأقيم المعرض في العراق يوماً ما، لكن اهتمامات العراق تغيّرت، كما ترون، تماماً كما تغيرت اهتمامات وأولويات أصحاب تلك الأشياء المنسية.
ولقد توقفت صدفة بالأمس أمام ما بقي منها، وتأملت فيما يمكن أن تعنيه، إنها الآن منسية ولا أحد يطالب بها، ولا أدري إن كان أصحابها قد تطوروا في إنسانيتهم واهتماماتهم، أم أنهم ذهبوا في اتجاه آخر ففقدت قيمتها عندهم، بل أصبحت بلا قيمة أصلاً.
تلك الأمانات كانت تشكل رموزاً لأشياء قد يموت أحدهم من أجلها، وأظن أنها التي عناها أحمد شوقي بقوله:
“قد يهون العمر إلا ساعة
وتضيق الأرض إلا موضعا”.
ولا ينبغي الحكم على أصحاب تلك الأشياء المنسية، فالحياة تطرح كل يوم رمزاً ومكاناً وساعة يهون العمر كله لولاها، لكنها بانتهاء الساعة، تصبح مثل وردة يابسة في كتاب.
وحين أنظر إليها اليوم يزداد يقيني أنها مهمة وثمينة، لكن لأصحابها رأياً آخر!